Google AdSense

آخر الأخبار

كتاب أربعة ايام مع السادات فى القدس

 

 

جاليرى الكتب

ملف

كتب الرؤساء – مصر

أربعة أيام مع السادات فى القدس

تأليف: نبيل سعد

الناشر : الكتاب الذهبى

سنة النشر : القاهرة 2000

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

نبيل سعد يروى الرحلة التاريخية من زاوية الصحافة

ضحكات "السادات " وقلق "مائير"!

·      تمركز تفكيرى ووجدانى كله حول صورة السادات عندما يقدم التحية للعلم الإسرائيلى.

·      دخل السادات الكنيست وحدث هرج ومرج وانطلقت كلمات الاحتجاج من النائبين العربيين!

·      أسلوب القاء السادات جعل خطابه أمام الكنيست شيئاً آخر.

·      الاسرائيليون بعد الخطاب احتفلوا بالمصريين وفتحوا "الشمبانيا"

·      رفض مصطفى خليل أن يتحدث أحد لوسائل الإعلام قائلا : الرئيس وحده هو الذى يتكلم.

 

غربت الشمس وانتهى السبت المقدس وازداد التوتر واختفى الكومبارس وحضر الممثلون الحقيقيون واصطفوا فى خط عمودى أما حرس الشرف إفرايم كانسير رئيس الدولة : مناحيم بيجين رئيس الوزراء. جولدا مائير رئيسة الوزراء السابقة وكل ما فى اسرائيل من شخصيات رسمية سامية وسألت احد المرافقين لى : هل هذا هو الجنرال ديان؟

-     نهم لماذا تسأل؟ فهو معروف للغاية بالعصبة السوداء على عينه وشكله المميز.

كنت أخال وزير الخارجية أطول قامة أشرت إذن إلى وظيفته الحالية وليس إلى جنراليته" كان بالفعل قصير القامة اكثر مما كنت اتخيل ومرة ثالثة تم عزف السلام الجمهورى المصرى لتدريب الفرقة الموسيقية ومر ضابط على جميع أفراد الحرس لمراجعة هيئتهم.

كنت أجد نفسى اتساءل بإصرار: ماذا سيحدث لى عندما يصل الرئيس امام العلم الاسرائيلى وينحنى امامه؟ لم اتمكن من ابعاد تفكيرى عن تلك الصورة المتوقعة بل الحادثة حتما بعد دقائق وكنت ارفضها بكيانى كله وكنت اتساءل هل اغمض عينى أم اقوم باى عمل صاخب حتى يلفت النظر بعيدا عن هذا المشهد ؟ افكار غريبة راودتنى وانا فى انتظار وصول الطائرة ولم افهم ساعتها وإلى اليوم لماذا تمركز تفكيرى ووجدانى كله حول هذه الصورة المرفوضة من كل خلية من خلايا جسمى وفكرى .

اعلن أن الطائرة الرياسية المصرية تهبط على المدرج توقف كل شىء بل تجمد تقريبا الطائرة توقفت وبابها أمام السجادة الحمراء تماما وعلم مصر يرفرف على نافذة قائد الطائرة وفتح الباب وصعد من صعد وخرج طاقم الضيافة ثم احد اعضاء الوفد ثم ثوان طالت كأنها ساعات وظهر السادات على سلم الطائرة وتوقف لحظة عزفت فيها الابواق النحاسية الاسرائيلية تحية له كان مرتديا بذلة فاتحة اللون على غير عادته لأن المعروف عنه هو احترامه وتفضيلة للرسميات وقد كان يومها الوحيد الذى يرتدى اللون الرمادى الفاتح وسط جمع كلهم يرتدون ما هو داكن اللون زاد من غرابة هذا الجو الذى لا يمكن وصفه سماع طلقات المدفعية التى دوت احدى وعشرين مرة جرت المراسم المعهودة من استعراض حرس الشرف ووقف الرئيس امام العالم الاسرائيلى وانحنى تحية له ولم يحدث شىء وراح يحيى مستقبليه ولاحظت أن التجمهر كان يبدو غير منظم حول الرئيس وانه كثيف بشكل غير عادى ولكن بدأت الضحكات تدوى فى المطار عندما صافح الرئيس جولدا مائير وراحا يضحكان بصوت عال ومعهما كل من حولهما وفى هذه اللحظة ادركت أن بسبب تركيزى على ما يحدث امامى لم ألاحظ أن صاحبى السعادة المرافقين قد حشرا كتفى تماما بين كتفيهما بذراعيهما على ذراعى واصبحت مشلول الحركة تماما بين اكتاف العملاقين الواقفين بجانبى الايمن والايسر كانا يكتفانى بالمعنى الاصلى للكلمة كتعاضد كتف إلى أن سمعنا الضحك وبدا أن كل شىء يسير على مايرام وعندما أدركت انى محاصر نظرت اليهما نظرة غضب فرأيتهما يغيران فجأة من موقفهما ويشدان على يدى مهنئين بسلامة وصول الرئيس كما هنأ بعضهما وبسرعة البرق تحدثا معى فى مرح عن أى شىء وكل شىء.

أدركت ساعتها تماما أن الاسرائيلين كانوا يعتقدون كما عرفنا فيما بعد أو أن جانبا منهم على الاقل كان يعتقد أن وراء زيارة الرئيس عملية عسكرية ستفاجئهم مفاجأة أكتوبر 73 وأن طائرة الرئيس تحمل فريقا من الكوماندوز لاغتيال جميع رجال الدولة الاسرائيلين بل إنى سمعت بعد ذلك من بعض الصحفيين انهم كانوا قد وضعوا بخلاف خطة الرد على هذا الهجوم قائمة باسماء الذين سيحلون محل اى مسئول يتم اغتياله لا اعلم ان كانت الامور قد وصلت إلى هذا الحد فى خيالهم ولكن الشىء المؤكد بالنسبة لى انهم اعدوا لكل شىء عدته وحسبوا لكل عارض حسابه وانى كنت موضوعا تحت المراقبة الدقيقة من "السفيرين".

بعد المصافحة والتهنئة أسرع السفيران بى إلى سيارة كانت فى انتظارنا أسفل مدرج الصحفيين وذهبت للقاء الوفد الصحفى المصرى الكبير الذى رافق الرئيس وكانوا قد استقلوا سيارة ميكروباص تحت السلم الخلفى للطائرة وأول من رأيت الأستاذ/ أنيس منصور والأستاذ/ محمد عبد الجواد رئيس وكالة الشرق الأوسط وكل رؤساء التحرير استأذنت من السفيرين وشكرتهما وركبت السيارة الميكروباص وعرضت على اعضاء البعثة الصحفية الترتيبات الموضوعة ومكان المركز الصحفى والتسهيلات المعطاة لهم ومواعيد اللقاءات التى ستتم مع الرئيس وتوجهنا إلى مقار إقامتنا.

داخل القدس الشوارع خالية تماما اصبحت تعج بالناس وكانوا قد انهوا اجازة السبت وشاهدوا وصول الرئيس على شاشات التليفزيون واندفعوا إلى الطريق الذى سيسلكه الموكب على أمل رؤية الرئيس.

وقفت بعيدا فى الشارع الذى يقع فيه فندق كنج ديفيد أسجل فى ذاكرتى ما أراه كان عدد الأطفال كبيرا على الأكتاف وكان الناس فى الشارع بالفعل فى حالة فرحة حقيقية صادقة عبروا عنها بحماس وكانوا يلوحون بالاعلام المصرية الصغيرة المطبوع عليها تاريخ الزيارة .

ومرت سيارة الرئيس بسرعة امامنا ورأيته يتحدث مع رئيس اسرائيل إلى جانبه.

 

الأحد 20 نوفمبر 1979

تسبب الارق فى أن اختل برنامجى فقد تأخرت فى الوصول إلى المسجد الاقصى لصلاة العيد بعد أن كان الرئيس والوفد المصرى قد احتل الصفوف الأولى شققت الصفوف محاولا الاقتراب الا اننى اضطررت إلى أن اكتفى بالصف السادس أو السابع وراء الرئيس بسبب الزحام وكان فى ذلك فائدة لانى جلست وسط الفلسطينيين استشعر نفسياتهم وردود افعالهم إزاء ما يجرى من احداث دون تبادل الاحاديث معهم.

إذ أن المجال لم يكن ليسمح بذلك وخاصة أن رجال الامن الاسرائيليين كانوا يقفون متفرقين وسط المصلين ولكن الاحاسيس المكبوتة كانت تفصح عن نفسها تكاد تشعر بها تتفاعل فى غليان من حولك كالضباب الذى يغلف فجأة كل شىء وأنت سائر وسط حقول الريف فى فجر يوم رطب ضباب عدم فهم أو إدراك مرامى الحدث.

يغلب على الجميع إحساس بالقلق الكثيف: هل هو حزن؟ هل تحول إلى احباط؟ إنك لا تجد تعبيرا واحدا مستريحا كالذى تراه فى مثل هذه الاعياد وخاصة عيد الاضحى المبارك بل تعبيرات غضب سرعان ما يتعامل معها رجال الامن.

ولم تطل خطبة العيد كثيرا وكذلك شعائره وخرجنا إلى ساحة المسجد وزار الرئيس قبة الصخرة ثم توجه إلى كنيسة القيامة جاء دخولى إلى الكنيسة بعد وصول الرئيس والوفد المرافق له وكان مطران القدس القبطى المصرى يشرح بصوت عال قضية دير السلطان وهو الدير المصرى الذى سلمته السلطات الاسرائيلية للجالية الحبشية فى القدس علما بأن هذا الدير هو ملك لمصر!

بعدها كانت زيارة "ياد فاشيم" وهو متحف ونصب تذكارى لضحايا النازية وكان شامير قد ذهب إلى السادات فى فندق الملك داود واصطحبه معه اليه واستمع السادات بانتباه كامل دون أن ينطق بحرف واحد طوال مدة الزيارة إلى شرح أمين المتحف وكيف أن جميع أسماء الضحايا مسجلة فيه و..و..و..إلخ . كان بيجن يتدخل من وقت لآخر ليضيف معلومة أو تعليقا يرى أنه مناسب لكى يعد الرئيس لما سيقوله له بعد ذلك فقد كان بيجن لا يتوقف أبداً عن الحديث فى جميع المناسبات عن العذاب والاهانات التىعرفها اليهود وان التاريخ لا يعيد نفسه أبدا إلى آخر الكلام الذى كان يردده بدون مناسبة والى آخر هذه الاسطوانة المحفوظة كما كان سيفعل بعد ذلك فى الكنيست ثم عاد الركب إلى مقر الرئيس.

واستعد الجميع للحدث الاهم : خطاب الكنيست اول شىء لفت نظرى لدى وصولى إلى مقر البرلمان الاسرائيلى أو الكنيست هو بساطة المبنى ومع ذلك فهو يعطى إحساسا بالفخامة علما بأنه ليس كذلك ويرجع ذلك إلى ارتفاع الاسقف مع فراغ كبير فى الاروقة وكل هذا الفراغ يؤكد فجأة على جمال الحائطيات التى تستقبلك فجأة وتسحب منك كلمة استحسان وهى للفنان اليهودى الفرنسى العالمى الراحل شاحال.

دخلت شرفة الزوار المطلة على قاعة اجتماعات للكنيست فى المكان المخصص للوفد المصرى.

وصل إلى مسامع الدكتور/ مصطفى خليل حديث سريع مع المهندس عثمان فاستفسر عن احوال الصحافة كررت ما قلته للدكتور / بطرس غالى فى الصباح عن احتلال الجانب الاسرائيلى للمساحة الاعلانية الدولية كلها والفراغ الموجود من الجانب المصرى فرد بحسم : الرئيس وحده هو الذى يتكلم وعندما حاولت القاء بعض الضوء على الموقف لم يدعنى استرسل كثيرا مرة أخرى.

وكنت اعرف كيف تجرى الامور فى الإعلام المصرى فقد أمضيت العمر كله فى اروقته وامام ميكروفونات إذاعاته وكاميرات تليفزيونه وأعرف تماما أن خطب رئيس الجمهورية تأتى فى قدسيتها بعد القرآن الكريم مباشرة فلا يقطع الإرسال أبداً وهى تذاع والويل كل الويل للمذيع أو مهندس محطات الارسال إن حدث اى شىء يعكر أو يؤثر تأثيرا سيئا على إذاعة كلام رئيس الجمهورية.

وكنت أعرف تماما أن اى تعليق سياسى أو تصريح لمسئول ليس سوى تنويعات على اللحن أو النص الرسمى ذى القدسية للاحاديث الرئاسية فإن كل مسئول له أية صفة رسمية لابد أن يقول "وكما قال أو كما اشار أو كما وجه السيد الرئيس فإن .."

كنت على وعى كامل بذلك ولكن الامر هنا يختلف مصر لها كلمة رسمية واحدة فلنسمعها إذن لنعرف توجهاتها ثم ننوع نحن أيضاً بعد ذلك.

ونظرت امامى لكى اتابع ما يحدث فى الكنيست رأيت وجوها كثيرة اعرفها كان بالطبع أكثرهم وضوحا هو صاحب "العصبة" السوداء على عينه موشى ديان – ورابين وبيريز – وبدأت الكراسى كلها تشغل عن آخرها.

فى آخر القاعة سمعت صخبا من نفس نوع صخب مسرح البلدية وبدأ النواب يرفعون من اصواتهم للرد على اثنين من النواب الجالسين فى الصف الاخير واحتد تبادل الردود ووصل إلى درجة تدخل رجل الأمن الداخلى لإخراج أحد هذين النائبين من القاعة واتضح أنه احد النواب العرب فى الكنيست.

ودخل القاعة الرئيس السادات ووقف الجميع لتحيته وضجت القاعة بالتصفيق الحاد قيل لى ان التصفيق غير مسموح به تقليديا فى الكنيست ولكن سمح به استثناء بمناسبة زيارة الرئيس السادات وذلك فى الاجتماعات التى تمت لترتيب بروتوكول هذه الجلسة الخاصة.

جلس الرئيس السادات إلى يمين رئيس الكنيست إسحق شامير وجلس إلى يسار شامير رئيس دولة اسرائيل افرايم كانسير وتليت بعد ذلك آيات من التوارة وحدث هرج ومرج فى آخر صف فى قاعة الكنيست وكان ذلك بسبب كلمات الاحتجاج التى كانت تشبه الصراخ والعويل أكثر من كونها هتافا والتى أطلقها أحد أعضاء العرب وبسرعة عاد الصمت إلى القاعة.

ساد صمت كامل فى المكان وعلت الوجوه كلها مسحة من الجد الصارم المخلوط بالقلق وقدم إسحق شامير لكلمة الرئيس السادات بكلمات قصيرة.

بدأ الرئيس يتكم وبدأ كلامه عن السلام واستمر من اول الخطاب يتكلم عن السلام وكرر الكلمة فى خطابه الذى استمر 75 دقيقة 35 مرة وكان صوت الرئيس هادئا وقورا رزينا وما عدا بعض التأكيد على نهايات بعض الكلمات وهو احدى العلامات المميزة لاسلوبه فى الحديث كان كلامه رتيبا يكاد يقترب بك من الملل ولكن دون أن يدعك تقع فيه إذ كان ما يقول يضطرك إلى الانتباه الدائم وشعر الجميع وخاصة الاسرائيليين أن الرجل يتكلم بجوارحه كلها وحديثه قادم من القلب ويقول مراسل الجيروزاليم بوست فى الكنيست آثر دولفيشن فى تقريره لصحيفته الذى يصف به الخطاب:إنه خطاب هادىء وصادر من القلب استقبله اعضاء الكنيست وكذلك الضيوف ووسائل الاعلام استقبالا حارا.

ومع ذلك كان الخطاب شديد اللهجة بل فى بعض الأحيان حادا فى مفرداته ولكن اسلوب العرض جعله مقبولا من الجميع.

يقول مثلا:"أحذركم من بعض الخواطر التى يمكن أن تطرأ على أذهانكم"

إن واجب المصارحة يقضى أن اقول لكم ما يلى:

أولا: اننى لم أجىء إليكم لكى أعقد اتفاقا منفرداً بين مصر واسرائيل ليس هذا واردا فى سياسة مصر فليست المشكلة هى مصر واسرائيل وأى سلام منفرد بين مصر واسرائيل أو بين اية دولة من دول المواجهة واسرائيل فإنه لن يقيم السلام العادل فى المنطقة كلها بل أكثر من ذلك فإنه حتى لو تحقق السلام بين دول المواجهة كلها واسرائيل بغير حل عادل للمشكلة الفلسطينية فإن ذلك لن يحقق أبدا قيام السلام الدائم العادل الذى يلح العالم اليوم عليه.

ثانيا: إننى لم أجىء اليكم لكى اسعى إلى سلام جزئى بمعنى أن ننهى حالة الحرب فى هذه المرحلة ثم نرجىء المشكلة برمتها إلى مرحلة تالية.

وفى موضع آخر يقول السادات:" لقد كان بيننا وبينكم جدار مرتفع ضخم حاولتم أن تبنوه على مدى ربع قرن من الزمان ولكنه تحطم فى 1973".

ووصل إلى طرح المشكلة الفلسطينية قائلا:" ليس هناك من يقبل اليوم فى العالم كله شعارات رفعت هنا فى اسرائيل تتجاهل وجود شعب فلسطين بل تتساءل أين هو هذا الشعب؟.والذى كان يرفع هذا الشعار هو بيجن ذاته).

"إن قضية شعب فلسطين وحقوق شعب فلسطين المشروعة ، لم تعد اليوم موضع تجاهل أو انكار من أحد بل لا يتحمل عقل يفكر أن تكون موضع تجاهل أو انكار، انها واقع استقبله المجتمع الدولى غربا وشرقا بالتأييد والمساندة والاعتراف فى مواثيق دولية وبيانات رسمية لن يجدى أحد أن يصم آذانه عن دويها المسموع ليل نهار أو أن يغمض عينيه عن حقيقتها التاريخية".

واستمر الرئيس فى الحديث عن فلسطين إلى أن قال:

"وإذا كنتم قد وجدتم المبرر القانونى والاخلاقى لاقامة وطن قومى على أرض لم تكن كلها ملكا لكم فأولى بكم أن تتفهموا إصرار شعب فلسطين على إقامة دولته من جديد فى وطنه".

مرة أخرى يستهدف الرئيس أنور السادات بيجن رئيس الوزراء وشامير رئيس الكنيست فيقول بأسلوب مباشر دون مداراة:" وحين يطالب بعض الغلاة والمتطرفين بأن يتخلى الفلسطينيون عن هذا الهدف الاسمى فإن معناه فى الواقع وحقيقة الامر مطالبة لهم بالتخلى عن هويتهم وعن كل أمل لهم فى المستقبل".

وانتهى الاجتماع وانفض المجلس وهرعنا جميعا نحن معشر الباحثين عن المتاعب إلى المركز الصحفى ورحت اتتبع ردود الفعل لدى الصحفيين الاجانب كانت جميعها ايجابية للغاية بالنسبة لخطاب الرئيس السادات وسلبية تماما بالنسبة لخطاب رئيس الوزراء مناحم بيجن.ولما كنت قد حصلت على نسخة من خطاب الرئيس فقد قمت بنسخها وتوزيعها على من يطلبها.

وطلبت نسخة من خطاب بيجن من المسئولين الاسرائيليين فوعدونى بإحضارها فور الانتهاء من تفريغها وترجمتها وطباعتها ومازلت حتى الآن انتظر هذا النص الكامل للخطاب، الواقع أن الاسرائيليين لم يطبعوها ولم يوزعوها كما يحدث عادة فى مثل هذه الظروف وانما اكتفوا ببعض المقتطفات التى ظهرت فى الصحف الاسرائيلية فى اليوم التالى.

توالت الاحاديث الصحفية والاذاعية والتليفزيونية وكانت جميعا تنويعات على اللحن الذى عزفه السادات فى الكنيست الاسرائيلى.

فى المركز الصحفى كنت اخاطب تليفونيا اصدقاء لى فى الولايات المتحدة عندما اقترب منى رجلان يرتديان البدل الزرقاء الغامق التى تدل على انهما من الشخصيات التى حضرت جلسة الكنيست كان احدهما معروفا لدى كل مصرى شاهده قبل أربع سنوات على شاشات التليفزيون فهو العقيد "فى ذلك الوقت" عساف ياجورى كان قائد لواء مدرع دفعت به اسرائيل فى سيناء لصد الهجوم الكاسح للجيش المصرى الذى فرغ من عبور قناة السويس وكانت اغلب النقاط الحصينة لخط بارليف قد سقطت فى يده وقد هزم هذا اللواء المدرع هزيمة كاملة، وقع قائده فى ايدى القوات المسلحة ها هو هذا القائد امامى الآن وقد تبدلت هيئته تماما فقد زاد وزنه جداً واصبح له كرش ولم يعد الضابط صاحب القوام العسكرى المشدود الذى بدا عليه امام كاميرات التليفزيون فى مصر بعد أسره.

كان يرافق عساف ياجورى شخص آخر هيئته تدل على أنه لا يزال فى الخدمة العسكرية وإن كان فى لباس مدنى وتقدم وعرفنى بنفسه على أنه مسئول عن السكان العرب فى القدس وعندما اراد أن يعرفنى بزميله قلت له: إن العقيد عساف شخصية مشهورة جداً فى مصر! ثم تلى ذلك حديث طويل لم ينطق خلاله عساف بأية كلمة وبقى مستمعا فقط أما زميله فقد اطنب فى الحديث عن خطاب الرئيس امام الكنيست وحصلت منه اذن على اول رد فعل رسمى على الخطاب قال : إن الرئيس كان مباشرا للغاية، أوضح وجهة نظره وإن الاسرائيليين يحبون هذا الاسلوب الصريح وان كان بعض ما قاله قاسيا واضاف بسرعة : ولكن ما لم يقبله الاسرائيليون أبداً هو حديثه عن القدس ان كلام السادات عن القدس تسبب فى إغضاب الاسرائيليين.

وذهبت إلى الفندق وكان استقبال المصريين فى الفندق من العاملين والعاملات بعد خطاب الرئيس احتفاليا وفتحت زجاجات الشمبانيا"!" فى حين كانت كاميرات التليفزيون تضاء لها الانوار من وقت لآخر لتسمح لها بالتصوير.

فى هذه الليلة استغرقت فى نوم عميق بعد أن راح معظم القلق وحل محله احساس بالرضا وهو الاحساس الذى يغمرك بعد أن تؤدى عملك بصورة ترضيك مضافة اليه فرحة الانتصار فى مباراة رياضية.

وفى صباح اليوم التالى اسرعنا بالذهاب إلى الكنيست للمرة الثالثة حين كان الرئيس السادات سيجتمع بمختلف المجموعات البرلمانية الاسرائيلية كل على حدة.

فى احدى الطرقات فى الدور الارضى من الكنيست حيث توجد قاعات اللجان البرلمانية رأيت موشى ديان امامى فجأة بصحبة شاب يبدو أنه سكرتيره وجدت الرجل قصيرا بل ربما اقصر مما تخيلته ووجدت أن ساقيه على هيئة قوسين والبنطلون واسع لم يخف هذا العيب ولا ادرى إلى اليوم إذا كان هذا الانطباع يرجع إلى انى كنت اكره هذا الإنسان ولاننى علمت بعد ذلك أنه بكى لما تأكد من أن الجيش المصرى يمكنه أن يدخل اسرائيل دون عائق حقيقى امامه بعد اجتياح دفاعاته على قناة السويس تساءلت: هل هذا هو موشى ديان بطل حرب"الأيام الستة" كما كانوا يطلقون عليها ووزير خارجية اسرائيل الحالى؟ وما زال موشى ديان فى ذاكرتى قصير القامة.

فى البهو الذى تطل عليه القاعات المخصصة للاحزاب الاسرائيلية وجدت اعضاء من الوفد المصرى وخاصة بعض رجال الامن فى انتظار وصول الرئيس وإذ كنت اتحدث إلى احدهم وهو طويل القامة رأيته يطلب متى ألا أتحرك وأن ابقى أمامه وأن أدور معه كلما دار لنبقى دائماً فى مواجهة بعضنا سألته لماذا؟ قال حتى لا يرانى عساف ياجورى؟ قلت له : تانى؟ ولما سألنى لماذا اقول "تانى"؟ قصصت عليه ما دار بالامس عندما زارنى فى المركز الصحفى مع زميله فأضاف العقيد المصرى:" أما انا فقد كنت مسئولا عنه عندما كان اسيرا فى مصر والوضع الآن اصبح محرجا إذا ما تقابلنا".

قمت إذن بدور الساتر بينهما وإن كنت لم اوافق سيادة العقيد على رأيه ووددت لو امكننى أن اسجل بعينى لحطات لقائهما المباشر فى القدس بعد زيارة عساف الإجبارية للقاهرة.

جرت مقابلات الرئيس مع ثلاث كتل برلمانية فى جو مفتوح – حضرته الصحافة – ولذا فقد كانت الكلمات هنا تستهدف الرأى العالم أكثر من الطرف الآخر وبعد أن تكلم بيجن عن الكتلة البرلمانية الحاكمة جاء دور حزب العمل لكى يقول كلمته وكان ذلك على لسان جولدا مائير التى جلست على المنصة إلى يمين الرئيس وجلس إلى يساره زعيم الحزب شيمون بيريز ولما كان بيريز قد تكلم فى جلسة الكنيست فقد تكلمت جولدا التى كانت رئيسا للوزراء خلال "زلزال 73" . بدأت هى الأخرى بكلام محفوظ عن الاسرائيليين الذين عادوا إلى بلادهم وكانوا اول من زرع الصحراء إلى آخر هذا الكلام الاسرائيلى المكرر فى حملات الدعاية التى تعودنا عليها.

وعقب الرئيس السادات بالقول:" ستكون هناك قرارات صعبة جداً سيتعين عليكم أن تتخذوها من أجل السلام ولكن كل شىء يمكن أن يتم ان نحن احترامنا المبدأين اللذين ذكرتهما وهما: لا حرب بعد الآن ونحل مشاكلنا بالتفاوض".

اختتم الرئيس أنور السادات زيارته للمجموعات البرلمانية للكنيست الاسرائيلى وكان النهار قد انتصف واتجهنا مسرعين إلى المسرح البلدى لمدينة القدس حيث ينعقد المؤتمر الصحفى العالمى "الخرافى" الذى لم يشهد العالم مثله من قبل ولا كان أحد يتصور أبداً أن ينعقد بهذا الشكل.

جلس الرئيس إلى المنصة على خشبة المسرح وإلى يمينه مناحم بيجن وجلس سعد زغلول نصار السكرتير الاعلامى يسار الرئيس ودان باتير السكرتير الصحفى لبيجن على يمينه وخلف المنصة جلس اعضاء الوفد المصرى واعضاء الوفد الاسرائيلى.

كانت القاعة الواسعة مكتظة بالصحفيين الذين جاءوا من جميع انحاء العالم وعلمت أن عدد الصحفيين الذين وصلوا إلى القدس بعد وصول الرئيس كان أضعاف الذين وصلوا قبله ورأى المسئولون الاسرائيليون فى تفسير ذلك أن معظم رياسات التحرير فى العالم لم تكن متأكدة من إمكانية إتمام الزيارة اصلا ولاحظوا أيضاً أن كثيرا من الذين وفدوا بعد وصول السادات كانوا من رؤساء التحرير والمحررين السياسيين الكبار.

وبلغ العدد النهائى للوافدين إلى القدس حوالى الفين وخمسمائة صحفى وكان ذلك رقما قياسيا فى ذلك الوقت.

كان اهم ما جاء فى المؤتمر هو أن السادات لم يحد موعدا لبيجن لزيارة القاهرة وأن هذا تم باتفاق مشترك بينهما وأن الرحلة التالية لما بدأ فى القدس هى العودة إلى مؤتمر جينف الذى كان من المفترض أن يضم جميع الأطراف العربية واسرائيل والقوتين العظميين وأن على اسرائيل أن تتخذ قرارات صعبة فيما يختص بالامن والاراضى.

وكان اهم ما جاء فى المؤتمر الصحفى المشترك والذى يتعين إبرازه هنا أيضاً هو هذا السؤال الماكر الذى طرحه الصحفيون الاجانب:

س – لقد كررتم عدة مرات فى الكنيست صباح اليوم أنه مهما حدث بعد ذلك بين مصر وإسرائيل يتعين عدم حله بواسطة الحرب فهل يعنى تصريحكم المتكرر هذا الذى كررتموه كثيرا من قبل فى مصر أنه إذا لم تتمكنوا من استعادة الاراضى بالطرق الدبلوماسية ستستردونها بالحرب؟

بعد العودة إلى القاهرة توالت الاحداث وبدأ نشاط مكثف من أجل انهاء الصراع العربى الاسرائيلى بناء على ما قاله الرئيس السادات فى الكنيست الاسرائيلى.

 ولما كانت الكرة فى ذلك الوقت قد اصبحت فى الملعب الاسرائيلى والعالم كله كان ينتظر رد الفعل للزيارة فقد بدأت المناورات وكان الحديث كله يدور حول عودة انعقاد مؤتمر السلام فى جنيف.

ولما رفض العرب حضور مؤتمر جنيف اقترح مبدئيا وتمهيدا لهذا المؤتمر عقد مؤتمر آخر فى القاهرة تحضره الدول العربية التى وقعت اتفاقية الهدنة عام 1949 وكذلك الدولتان العظميان وممثل الامم لمتحدة على مستوى الخبراء.

وانعقد المؤتمر ولم يحضره اى ممثل عن البلاد العربية وكانت اعلام هذه الدول مرفوعة على صواريها فى مكان انعقاده فى فندق مينا هاوس بالجيزة تحت سفح الاهرامات حتى علم منظمة التحرير الفلسطينية كان يرفرف عاليا هناك.

واختلف العرب مع السادات.

وبلغ هذا المد المناهض لمبادرة السادات أقصاه يوم اغتياله عندما فتحت زجاجات الشمبانيا داخل الامم المتحدة ووزعت على بعض الصحفيين فى الكافتيريا الخاصة بهم ابتهاجا بوفاة السادات.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كل شىء فى ذلك الوقت كان ينبىء بقرب حدوث شىء ما وكان أعداء الرئيس السادات السياسيون يتوقعون حدوث هذا الشىء من جانب الشارع المصرى، كما كان يتوقع نفس الشىء العديد من الاصدقاء والاعداء على حد سواء بعض الاصدقاء والاشقاء كانوا يخشون ثأر الانتصارات التى حققها الجيش المصرى 1973 وكان الود ودهم أن تبقى مصر فى حالة اللا سلم واللا حرب إلى أبد الآبدين ، فلا يضطرون إلى الدخول فى صراعات مثل تلك التى عرفوها أيام عبد الناصر. أما الاعداء فلا تحدث عنهم لأن هدفهم كان ولا يزال هو "تحجيم مصر وتحييدها " تماما.

هذا التحليل أدى بنا إلى توقع أن السادات سيخاطب الاسرئيليين بشكل مباشر. وصرحنا بذلك بشكل واضح وعلنى كمدير للمكتب الفنى لرئيس هيئة الاستعلامات كنا على اتصال مستمر بوكالات الانباء الاجنبية وبالصحفيين الاجانب المقيمين والزوار الذين كانوا يترددون على الهيئة يوميا، ومن جهة أخرى كان المكتب الفنى يصدر يوميا نشرة تلخيصية توزع على قليل جداً من المسئولين وهى نشرة تختلف تماما عن دورية أخرى تنشر بها تراجم بعض المقالات العالمية المهمة وتوزع بشكل اوسع قليلا. ولهذه الاسباب كنا أيضاً على اتصال برئاسة الجمهورية وبمنزل الرئيس نفسه فى ظرف ما. ولاسباب شخصية كان انفعالى عصبيا أكثر من اللازم إزاء احد الاحداث الجارية وعلى الرغم من كونه حدثا عاديا بمقاييس ذلك الوقت إذ كان يتكرر من بعض الاخوة المقيمين فى القاهرة.

واذكر انى كنت فى مكتب الزميل الاعلامى أحمد فوزى وكان يعمل يومها سكرتيرا للسيدة حرم رئيس الجمهورية وكان مكتبه ملحقا بمنزل الرئيس فى الجيزة وصرخت يومها قائلا:" يجب على الرئيس أن يحل المشكلة مع العدو الاسرائيلى مباشرة!

كان مثل هذا التصريح فى ذلك الوقت حيث كانت الجيوش فى حالة حرب- تهورا خطيرا – وأدركت ساعتها انى احرجت زميلى فخرجت من عنده إلى مكتبى فى هيئة الاستعلامات وكتبت استقالتى للدكتور مرسى سعد الدين رئيس هيئة الاستعلامات فى ذلك الوقت وسافرت إلى الاسكندرية أريح اعصابى المشدودة فقد كانت قراءة الجرائد الاجنبية وانباء الوكالات ومتابعة الاخبار ومناقشة الصحفيين الاجانب قد زادت من درجة الاحباط عندى بسبب جمود الموقف السياسى لدرجة افقدتنى توازنى.

بعد يومين كنت جالسا اشرب قهوة الصباح وانظر فى حزن إلى البحر الجميل امامى فى شرفة الفندق المطل على كورنيش الاسكندرية فسمعت حديثا بين اثنين من الزبائن الجالسين ورائى سمعتهما يقولان : الدكتور مرسى سعد الدين رئيس هيئة الاستعلامات يرهقنا بطلبات غريبة كيف سنجد هذا الزميل "وذكر أحدهما اسمى" فى الاسكندرية كلها فضحكت وفهمت انهما من مكتب هيئة الاستعلامات فى الاسكندرية وجاءا يطلبان منى الذهاب إلى فندق فلسطين بالمنتزة لمقابلة الدكتور رئيس الهيئة لأن معه وفدا صحفيا كبيرا ويطلب منى أن اصحبهم بدلا منه لانه مضطر إلى العودة إلى القاهرة صباح اليوم التالى . فى فندق فلسطين طلب منى رئيس هيئة الاستعلامات أن انسى موضوع الاستقالة وقام بتقطيعها امامى.

فى المساء كنت اجلس فى غرفة زميل لنا فى الهيئة هو محمد العجمى – الذى اصبح فيما بعد مستشارا إعلاميا فى الولايات المتحدة – فى نفس الفندق وكان رئيس الجمهورية يتحدث فى مجلس الشعب فى حضور رئيس منظمة التحرير الفلسطينية السيد ياسر عرفات وما أن وصل الرئيس فى خطابه إلى جملته الشهيرة :" إنى مستعد أن اذهب إلى آخر مكان فى العالم إلى الكنيست الاسرائيلى ذاته من أجل حل القضية".

إلا ورحت اصرخ "حا يصلى العيد فى الاقصى " وكررتها عدة مرات وفى أثناء ذلك دخل الغرفة د. مرسى فقصصت عليه ما حدث اتفق رئيس هيئة الاستعلامات معى فى التحليل السياسى للموقف وقررنا استغلال ذلك اعلاميا.

الدكتور مرسى سعد الدين هو الذى أعاد للهيئة العامة للاستعلامات هيبتها وديناميتها وبريقها الذى كانت عليه فى عهد الدكتور عبد القادر حاتم إذ أنها كانت فى فترة من الفترات "كالجراج" يركن فيه كل من كان يعارض النظام السياسى من الصحفيين والموظفين المغضوب عليهم فى بعض الهيئات والاجهزة الحكومية وكان وزير الاعلام فى ذلك الوقت هو المرحوم يوسف السباعى. كان محبوبا من جميع الاوساط الصحفية المحلية والعالمية وكانت له فى موقعه هذا حاسة متميزة لمعرفة الحر منه والرخيص والنافع من الطالح كما كان يكره الروتين واصبحت المكاتب الصحفية الملحقة بالسفارات المصرية انشط مما كانت عليه أبداً.

اقتنع اذن الدكتور مرسى بأننا كهئية استعلامات كنا مطالبين بعمل شىء ايجابى فى هذه الظروف وتم استغلال برنامج أسبوعى يقدمه رئيس الهيئة فى القناة الثانية بالتليفزيون وأصبح البرنامج يوميا تقريبا بسبب ذلك كان البرنامج عبارة عن تعليق على احداث الاسبوع باللغة الانجليزية ولعله لايزال يعرض على القناة الثانية حتى الآن، الخط الاعلامى الذى تم اتباعه حينذاك كان هجوميا ذلك لأن الصحافة العالمية كانت اكثر مما هى الآن منحازة تماما للجانب الإسرائيلى وتعتبره صاحب المصداقية الوحيدة فى المنطقة أما الاعلام المصرى فهو غير موضوعى ولا يرتكن اليه عند القيام بالتحليلات الصحفية السياسية اى أن الصحفى كان دائم الشك فى اية معلومة تصل من جانب رسمى عربى وهو ما استهدفت هيئة الاستعلامات تغييره لدى الصحافة الاجنبية وخاصة تلك العاملة فى مصر اى أن هدف الاعلامى حينذاك كان اقناع هؤلاء الصحفيين بأن يأخذوا ما تقوله هيئة الاستعلامات على محمل الجد على الاقل كأحد المصادر الصحفية وكانت الفرصة مواتية جداً فى ذلك الوقت لأن الادلة المادية على هذا التحيز الاعمى ضد الإعلام المصرى كانت عديدة فقد ظهرت الصحف العالمية فى الايام التالية على خطاب السادات فى مجلس الشعب خالية من أية اشارة اليه، وتكرر ذلك فى الايام التالية غير أنه بعد ايام قليلة صرح رئيس الوزراء أنه يدعو السادات لزيارة اسرائيل، افردت جميع الصحف العالمية عناوينها الرئيسية فى صدر صفحاتها الأولى وبالبنط العريض لهذا النبأ حتى وصل رد فعل مصرى لهذه الدعوة وكنا فى هيئة الاستعلامات نتوقع هذا.

فقد كان الخط الذى رسم للحملة الاعلامية بعد خطاب الرئيس فى مجلس الشعب هو أن نؤكد على أن الصحفيين لم ينقلوا إلى صحفهم أو وكالاتهم ما قاله السادات أو أن هذه الصحف أو الوكالات لن تنشر رسائلهم إن هم بالفعل علقوا على الخطاب.

وكان رئيس هيئة الاستعلامات يتصفح الجرائد امام كاميرات برنامجه التليفزيونى ويكرر القول أنه لا يجد فيها كلمة واحدة من عرض الرئيس السادات لإقامة سلام دائم فى المنطقة وأنه على استعداد للذهاب إلى .. إلخ.

اقوال رئيس هيئة الاستعلامات كانت تسجل ثم "تفرغ" بالكامل كنص رسمى توزع على المراسلين الاجانب قبل إذاعة البرنامج.

وقد افضى إلى عدد من المراسلين أن جميع مصادرهم الأخرى فى الهيئات الرسمية المصرية رفضت بشدة التصديق على أن السادات كان جادا فى عرضه الذهاب إلى الكنيست الاسرائيلى وحدث ما كان متوقعا عندما أذاع بيجن عودته للرئيس السادات لزيارة اسرائيل وصدرت الصحف فى جميع انحاء العالم بمانشيت واحد :" بيجن يدعو السادات لزيارة اسرائيل".

رفع رئيس هيئة الاستعلامات نبرة حديثه فى البرنامج التليفزيونى وعاتب الصحفيين الاجانب على انحيازهم الكامل هم وصحفهم إلى الجانب الإسرائيلى.

وهنا حدث ما كنا نتوقعه.

فى مساء الخميس 17 نوفمبر سنة 1977 كان رئيس هيئة الاستعلامات جالسا امام مكتب سكرتيرته يرد على مكالمة تليفونية من مراسل إحدى وكالات الانباء الامريكية الذى أخذ يناقشة فيما جاء فى حديثه التليفزيونى وكنت قد احضرت نص الحديث ووضعته امامه ودخل علينا وكيل الهيئة ومدير الاعلام الخارجى بها "وكانا يعملان قبل تعيينهما فى الهيئة فى أحد الاجهزة" وإذا بوكيل الهيئة يقول لى بصوت عال:" أنت ناوى تودى الدكتور مرسى فى داهية أرجوك تتفضل فى مكتبى! اندهشت للغاية من اللهجة والصوت العالى.وشعرت أن فى الامر شيئاً خطيرا.

فى مكتب وكيل الهيئة وجدت نفسى فى موقف المتهم الذى تم الحكم عليه بأغلظ العقوبات بالفعل وهو لا يدرى وكان همى كله هو أن استشف من الحوار بينى وبينهما هل سيكون فى إمكانى أن أعود إلى منزلى فقد تحركت داخلى جميع احاسيس الخوف التلقائى القديمة التى عرفها المصريون فى فترة ما فى تاريخهم.

كنت مثل أحد "كلاب بافلوف" المدربة إذا دق الجرس مرة سال لعابها لأنها ستأكل وإذا رن مرتين هزت اذيالها لانها ستتنزه وإذا دق الجرس ثلاث مرات صرخت مقدما لانها ستضرب، كنت إذا مكيفا جاهزا لتلقى وعدى".

على الرغم من تماسكى الظاهرى كنت فى حالة خوف شديد وحاولت أن استخدم نفس اسلوبهما فى التفكير حتى اتمكن من توضيح موقفى فخاطبتهما بأسلوبهما قلت لهما:إننا فى المعارك نضع الخطط المستقبلية لأية معركة محتملة مع اى عدو محتمل فى المستقبل حتى ولو كان عدو المستقبل غير نشط فى الوقت الحالى وإن ما قمنا به ليس سوى معركة فرعية مع الإعلام الخارجى المعادى بالفعل وليس لهدف هو الاعلان عن أن الرئيس سيسافر إلى اسرائيل بل إن الهدف هو تصحيح الموقف المناهض لمصر ولإعلامها الرسمى من جانب الصحفيين الاجانب.

سألانى : ما هو تقديرك لإمكانية سفر الرئيس؟

ترددت وآثرت السلامة فقلت :50%

حتى لو كان الاحتمال 80% وليس 50% لم يكن من الملائم أن يقال هذا فى تليفزيون مصر الرسمى ولكن ما كان يقال كان باللغة الانجليزية وليس العربية وهو بذلك لا يؤثر فى الرأى العام.

- ولو!!!

سرعان ما ادركت ألا فائدة من الحوار ووجهت تفكيرى إلى مجال آخر هو اسرتى – وكيفية الاتصال بها وكنت انظر إلى احدهما وهو يستغرق فى القراءة والتأشير على الملفات العديدة امامه والى الآخر وهو يتكلم كلام الواثق العاتب المتأثر لأن الزميل الذى امامه قد أخطأ خطأ جسيما فى هذه اللحظات الكئيبة على نفسى دخل علينا موظف من المكتب الفنى الذى كنت  أرأسه كان فى نوبتجية فى سكرتارية رئيس ووكيل الهيئة ولعله كان قد استشف أن رئيسه فى موقف صعب – وقال لى إن المكالمة التليفونية التى وصلت لى من وكالة الانباء الفرنسية غير قابلة للتحويل إلى التليفون الذى بجوارى وهو يرجونى أن اخرج لمحادثة المراسل فقد اكد له أن الموضوع جد خطير.

خرجت – ولم يحينى المراسل فى التليفون بل بادرنى بقراءة نص خبر عاجل جداً وصله للتو الخبر يقول :"بيان مشترك صادر فى القاهرة وواشنطن والقدس: السادات فى زيارة رسمية للقدس مساء السبت"

طلبت من المراسل أن يكرر ما قال وهنا صدقت أذنى ولم أرد وأعدت سماعة التليفون إلى مكانها دون أن اقول له شيئاً فقد كنت ابكى.

خرج زميلى مسرعا من المكتب ليحضر لى كوب ماء واعطانى ذلك الفرصة لأعيد لذاتى تماسكها وقررت أن اركز تفكيرى فى موضوع واحد حتى اعبر هذه اللحظات الحرجة عصبيا وهى ما تسمى فى المسرح ويستخدمها المؤلفون والروائيون والمخرجون السينمائيون فى حالات الاضحاك والابكاء والافراح ..إلخ وركزت تفكيرى كله فى كيف سأسافر إلى القدس؟ ولما توصلت إلى الخطط العريضة لمخططى عدت إلى زميلى وأنا هادىء بعد أن شربت كوب الماء بالكامل واعترف بأنى لم اسمع كلمة واحدة ما قالوه بعد ذلك وكان الوضع يشبه ما يحدث فى افلام السينما ومسلسلات التليفزيون عندما نرى المتحدثين يحركون شفاهم دون أن نسمع اصواتهم ونسمع صوت الممثل الصامت وهو يحدث نفسه اى انى كنت "أحكى مع حالى" على رأى بشارة واكيم فى فيلمه المشهور كنت استكمل مخطط السفر إلى القدس فى صمت بعد برهة من التفكير وكنت هدأت تماما.

قلت :على فكرة! المكالمة التى كنت اتلقاها الآن كانت تقول :"إن الرئيس سيصلى العيد فى المسجد الاقصى"

مرت ثانيتان ساد فيهما الصمت بعدها اندفع الجالس امامى خارج المكتب.

رأيت بعدها وكيل الهيئة العامة للاستعلامات وهو يقول:"يبدو أن الحج لم يتم" وقد كان يستعد للسفر فى فجر اليوم التالى لتأدية فريضة الحج مع زوجته وزوجة رئيسه فقلت له : ده يبقى حرام إنك نويت وكل شىء معد لذلك وما ذنب الاخرين؟ اتكل على الله" صمت برهة ثم قال :" نبقى نحصلكم على هناك إن شاء الله".

الاحاسيس عادت تحت السيطرة من جديد وأنا اناقش رئيسة هيئة الاستعلامات فى الخطوات التى ستتخذ بعد الاعلان رسميا عن زيارة رئيس الجمهورية للقدس كان الواقع الذى فرض نفسه يدفع الهيئة إلى استثمار ما حققته حتى الآن من عمل ريادى بما كان يذيعه رئيسها فى التليفزيون شاجبا فيه تحيز الصحافة والاعلام الاجنبيين لصالح اسرائيل.

اتضح سريعا للجميع أن من كان يعلم بالقرار الذى اتخذه رئيس الجمهورية لزيارة القدس عدد قليل جداً ممن كانوا حوله أما اجهزة الدولة كلها فلم تكن تعلم عن الامر شيئاً بل كانت تنفيه بشدة بما فى ذلك وزارة الاعلام ذاتها ووزيرها – عبد المنعم الصاوى – ومع ذلك فإن هيئة الاستعلامات – التابعة إداريا له – سارت وحدها ضد التيار السائد وبدت كما لو أنها "فى الصورة" عندما أعلن رسميا عن زيارة رئيس الجمهورية للقدس واتضح فيما بعد أن رئيس هيئة الاستعلامات كان – قبل الاعلان – على وشك أن يعفى من منصبه لانه كان يتحدث عن جدية مبادرة الرئيس.. كان وكيل الهيئة قد تلقى التعليمات من لجنة الاعلام فى الحزب الحاكم التى يرأسها انصار وزير الاعلام أن يوضع حد "لهذا الهراء" الذى يحدث فى هيئة الاستعلامات التى هى أو المفروض أن تكون المتحدث الرسمى للدولة فعندما كان "يحقق" معى وكيل الهيئة فقد كان بناء على تعليمات رسمية قد اتخذت وكان يقوم بتنفيذها وكان المستهدف من هذا "التحقيق" هو رئيس الهيئة نفسه.

أما بالنسبة لى فلم يكن الامر – حسبما قيل لى فيما بعد – سوى "شدة ودن" حتى استقيم داخل الخط الموضوع وأعود "تحت السيطرة" وقد أيد ذلك أن الوزير لم يكن على وفاق مع رئيس هيئة الاستعلامات ولذلك فقد كان هذا الاخير يفوض فى اغلب الأحيان وكيل الهيئة فى حضور الاجتماعات التى يدعو اليها الوزير لرؤساء الاجهزة التابعة له فى الوزارة كما أن الوزير رفض سفر رئيس الهيئة إلى القدس ووافق على سفرى انا ومساعد أختاره من الهيئة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ازدحم مكتب رئيس الهيئة العامة للاستعلامات بالمراسلين الاجانب فى لحظات فقد اثبتت تجربتهم مع الهيئة خلال الايام الاخيرة بدون اى مجال للشك أن هيئة الاستعلامات كانت على حق وانهم كانوا مخطئين تماما فى استبعاد ما كانت ترسله لهم من بيانات رسمية وكان واجبهم يحتم عليهم وعلى صحفهم وإذاعاتهم وتليفزيوناتهم أن يعطوا الاهمية الواجبة لأقوال رئيس جمهورية مصر.

أول من وصل من الصحفيين كان مراسل مجلة "دير شبيجل" الالمانية وهو لا يزال مراسلها حتى الآن فولكهارد فيندفورد وسألته عن الوسيلة التى سيذهب بها إلى القدس لتغطية – هذه الزيارة التاريخية ..

خاصة أن التحرك من القاهرة إلى اى مكان فى العالم لم يكن بنفس السهولة التى عليها الآن فراح يبحث فى مواعيد الطائرات التى يمكن أن تقله إلى هناك واتصل بزميله مراسل وكالة الانباء الالمانية ماتياس هارت الذى كان فى الوقت نفسه رئيسا لجمعية المراسلين الاجانب فى مصر ولم يكن مكتبه بعيدا عن مقر هيئة الاستعلامات فى شارع طلعت حرب ولم تمض دقائق قليلة إلا وكان سكرتير رئيس الهيئة يستأذن فى دخول "ماتياس هارت" لحضور الاجتماع وبعد مداولات لم تدم طويلا قام بالاتصال بجميع اعضاء الجمعية الموجودين فى ذلك الوقت بالقاهرة  واستفهم منهم عن قبولهم الاشتراك فى تأجير طائرة خاصة – شارتر- للسفر بها إلى القدس وطلبوا جميعا مهلة قصيرة للاتصال بإدارات صحفهم واذاعاتهم ليأخذونا موافقتهم لأن اغلب وسائل الاعلام الممثلة فى القاهرة كان لها مراسلون مقيمون فى اسرائيل أيضاً ،إن اهمية الحدث وضخامته بررت أن "يغطيه" فى البلدين المراسلون المقيمون فيهما معا بل إن كثيرا من وسائل الاعلام ارسل أيضاً رؤساء اقسام الشرق الأوسط بهذه الصحف بل وكثير من رؤساء التحرير سافروا ليروا بأنفسهم الشىء الذى لم يكن يصدقه عقل وهو زيارة رئيس أكبر بلد عربى لأعداء مازال فى حالة حرب معهم فلم يحظ هبوط اول رجل على القمر بالاهمية التى حظى بها هبوط اول رئيس عربى على ارض اعدائه – خاصة أن الهبوط على القمر كان مخططا له وحساباته قائمة ومعروفة من قبل أن يحدث أما زيارة السادات للقدس فقد زادت من اهميتها ومن إبهارها المفاجأة والسرعة التى تمت بها .

فى اقل من نصف الساعة كان ستة وخمسون صحفيا قد سجلوا اسماءهم فى كشف المسافرين من القاهرة إلى القدس..

ولكن على اى طائرة؟؟

تواعدنا – رئيس جمعية المراسلين وأنا – امام مقر شركة مصر للطيران فى شارع عدلى فى الثامنة من اليوم التالى الجمعة 18 نوفمبر 77.

 

18 نوفمبر سنة 77

طلبنا مقابلة رئيس شركة مصر للطيران بشارع عدلى بوسط القاهرة وفى يوم العطلة الجمعة 18 نوفمبر لم يكن هناك سوى مسئول نوبتجى جاء لاستكمال بعض الاعمال وهو السيد نبيل توفيق – عرضت عليه طلب جمعية المراسلين الاجانب فى مصر استئجار إحدى طائرات الشركة للذهاب إلى القدس!

لم يصدق أذنيه وصمت طويلا لا يدرى ماذا يفعل ولكن امام اصرارنا اتصل برئيس الشركة فى داره وما أن عرض عليه الأمر إلا وسمعنا من خلال سماعة التليفون التى اضطر السيد نبيل لابعادها عن اذنه وسمعنا صوت رئيس شركة الطيران وهو يصرخ : إن طائرات مصر للطيران لن تهبط  أبداً على ارض اسرائيلية وقطع المكالمة.

توجهت مع هارت رئيس الجمعية إلى رئاسة هيئة الاستعلامات حيث عقد اجتماع آخر لبحث الموقف مع عدد من المراسلين ..وحضر مراسل وكالة الانباء اليوغسلافية تانيوج ليعلن أن رئيس الوكالة الذى كان على اتصال به من بلجراد ابلغه أن الرئيس تيتو قد أمر بإرسال إحدى طائرات شركة الخطوط الداخلية اليوغسلافية لنقل الصحفيين وأنهم قد قبلوا السعر الذى تقدمت به الجمعية مقابل نقلهم إلى القدس وإعادتهم منها وأن الطائرة ستسافر مساء الجمعة ثم تعود لنقلهم إلى القاهرة بعد ثلاثة ايام.

لكن فرحة الجميع لم تدم طويلا فما أن اعلن عن الاتفاق مع الشركة اليوغسلافية إلا وحدث ما كان غير متوقع بل حدث ما كان يجب علينا أن نتوقعه.

فقد انسحب جميع ممثلى الصحافة الشيوعية من أوروبا الشرقية وآسيا من المشاركة فى السفر وكانوا يمثلون حينذاك نحو ثلث عدد المراسلين ارتفع بالتالى سعر التذكرة الواحدة واصبح حجم الطائرة التابعة لشركة الخطوط اليوغسلافية الداخلية "آفيا أرديا" اكبر من أن تؤجر لعدد محدود "نحو ستة وثلاثين صحفيا فقط " ولم يبق من الشيوعين سوى مراسل وكالة أنباء المانيا الشرقية إبرنارد آمى Eberenard Amme وكان فى الواقع موظفا فى السفارة وكذلك مراسل آسيوى آخر من فيتنام.

لم يكن هناك من الوقت ما يكفى للتحرك فقد جاء انسحاب الشيوعيين فى توقيت قاتل "الثالثة بعد ظهر الجمعة " وتم الاتصال بالشركة اليوغسلافية لالغاء الحجز وفى حوالى الساعة الخامسة مساء استأذنت الدكتور رئيس هيئة الاستعلامات فى الاتصال برئاسة الجمهورية الا أنه لم يأذن ولم يرفض فطلبت من رئيس جمعية المراسلين الاجانب فى مصر أن يقف بجانبى ويعرض الامر على الضابط النوبتجى برياسة الجمهورية ليعرضه على الرئيس السادات وبعد أن شرح هارت – الذى يتكلم العربيى بسهولة – الامر على محدثه سأله هذا الاخير عن المكان الذى يتكلم منه وعن الذى يقف إلى جانبه فى المركز الصحفى وطلب مكالمته.

سألنى الضابط النوبتجى لماذا لم أعرض أنا الموضوع بنفسى فلم أجب فقد كنت لا أزال تحت تأثير ما حدث لى مساء اليوم السابق وكان واضحا أن أحداً لا يدرى ما ستسفر عنه هذه الرحلة الخطيرة ولعللى أجبت ببعض الجمل الساذجة مثل :لأن الموضوع يخص الصحفيين الاجانب أو بشىء من هذا القبيل فطلب من محدثى أن اعطيه رقم التليفون الذى اتكلم منه وقال إنه سيعيد الاتصال.

فور انهاء الاتصال وصلت مكالمة من مطار القاهرة تفيد بأن الطائرة اليوغسلافية قد وصلت بالفعل وهى فى انتظارنا للاقلاع فورا.. هلل الجميع فرحا بحل المشكلة فى حين اتصلت رئاسة الجمهورية مرة أخرى وافادت بأن الرئيس السادات امر بأن توضع طائرة تحت تصرف الصحفيين الاجانب وذلك دون مقابل ولكنى شرحت ما حدث للضابط النوبتجى وشكرته واوضحت له أن مراسل تانيوج "وكالة الانباء اليوغسلافية" قد اتصل بمقر الوكالة وان رئيسها اكد له أن الرئيس تيتو هو الذى اعطى اوامره للطائرة بأن تقلع وبأن تبقى تحت تصرف الصحفيين فى مطار اللد لحين عودتهم مرة أخرى إلى القاهرة، بعد انتهاء مهمتهم فى تغطية انباء الزيارة كما أمر بالا ترفع قيمة مشاركة اى صحفى سيسافر على متنها عما كان مقررا قبل انسحاب الصحفيين الشيوعيين. موقف الرئيس تيتو هذا يستحق المراجعة فهو يثير تساؤلات عديدة، فهو لم يكن ينظر بارتياح للعلاقات التى تتوطد بين السادات والولايات المتحدة ومع كيسنجر بالتحديد ..

وكان يرجع ذلك فى الاساس إلى تمسكه بسياسة عدم الانحياز ومؤسساتها.

خلال تلك الفترة الزمنية القصيرة اى منذ الاعلان عن الزيارة وإلى أن تقرر سفر الوفد الاعلامى الاجنبى إلى القدس كانت الاتصالات تتم مع اسرائيل من خلال المكتب الصحفى بالسفارة الامريكية القاهرة، وبالتحديد مع الملحق الصحفى الامريكى جورج مافيت .. الذى كان دائم المتابعة مع رئيس هيئة الاستعلامات ومعى للترتيبات التى يجب أن تتخذ من حيث الحجز فى الفنادق وعدد المسافرين وعدد الخطوط التليفونية المطلوبة وكيفية ربط هذه التليفونات بالشبكة المصرية وأرقام جوازات السفر وجنسيات الصحفيين وأسماء الاجهزة الاعلامية التى يتبعونها واجهزة التصوير التليفزيونى وأرقامها..الخ، كل هذه التفاصيل كانت ضرورية وهى روتينية ومملة ولكنها ضرورية خاصة أن مجموعة الصحفيين كانت ستصل إلى اسرائيل من بلد هى فى حالة حرب معها.

برزت مشكلة جديدة : كيف سيتم صرف بدل السفر فى حالة الموافقة النهائية على سفرنا أنا وزميلى ذلك لأن العملة الصعبة لم تكن متوافرة فى ذلك الزمن وكانت "صعبة" بالفعل لأن التعامل بها كان محظورا ولم يتردد رئيس جمعية المراسلين الاجانب فى القاهرة فى اقراضنا قيمة بدل السفر والمصاريف من صندوق الجمعية بالدولار على أن يتم تسديدها للجمعية من هيئة الاستعلامات بعد عودة الوفد من فلسطين كانت البنوك كلها قد اغلقت ابوابها بما فى ذلك فرع لبنك موجود داخل مبنى الاذاعة والتليفزيون فى ماسبيرو، كانت الاسعار فى اسرائيل كما اوضح المستشار الصحفى الامريكى مرتفعة للغاية بل كانت بكل المقاييس "نار" اى اعلى من الاسعار التى اعتدناها حتى فى كثير من البلاد الاوروبية.

اهم ما كان يشغل البال فى الاتصال بين القاهرة وتل ابيب من خلال السفارة الامريكية بالقاهرة هو تأشيرات دخول المصريين فى المطار. كان عدد المصريين ثمانية افراد منهم اثنان من هيئة الاستعلامات واثنان من اعضاء فريق التصوير المصاحب لمراسل التليفزيون الايرانى فى القاهرة وثلاثة من مراسلى أو مديرى مكاتب وكالات الانباء الامريكية والانجليزية ومراسل وكالة الانباء الفرنسية.

تذكرت فجأة انى لم احصل على القرار الوزارى اللازم للسفر ولم احصل حتى على موافقة رئيس هيئة الاستعلامات نفسه ولحسن الحظ حضر بنفسه إلى مبنى التليفزيون ،عندما اخبرته بوصول الطائرة اليوغسلافية. اتصل بمكتب الوزير الواقع فى المبنى نفسه وحادثه شخصيا فأمر الوزير بأن تصرف لى ولزميلى من المركز الصحفى "الذى تم اختياره للسفر بسبب وجوده فى نوبتجية يوم الجمعة " الورقة الصفراء – وهى التسمية التى تطلق على الإذن الرسمى بالسفر على أن تستكمل الاجراءات الادارية اللازمة صدار هذه الورقة وكذلك القرار الوزارى نفسه فيما بعد وبحثنا عن ورقة بيضاء تصلح لكتابة المذكرة التى يجب أن يرفعها رئيس الهيئة إلى الوزير فى هذا الشأن فلم نجد بسبب عودة جميع العاملين إلى منازلهم – سوى ورقة "دشت" وهى ورقة لونها رمادى غامق فى لون التراب تستخدم لكتابة المسودات فقط – وحررت المذكرة بخط اليد ووقعها رئيس الهيئة وصعدت بنفسى إلى مكتب الوزير وطلبت من السكرتير ادخالها له إذ كان فى اجتماع هام خاص بالأحداث الخطيرة المتوالية وقع عليها بالموافقة وقمت بتصوير الورقة واخذت الصورة مع الورقة الصفراء قبل أن اعود إلى دارى فى الزمالك لانى كنت مصرا أن تكون جميع الشكليات متبعة بحذافيرها من يعرف ماذا يمكن أن يحدث !!

رئيس الهيئة العامة للاستعلامات وضع سيارته تحت تصرفى حتى لا أتأخر عن الصحفيين الذين اسرعوا إلى مطار القاهرة.

واقلعت الطائرة المدنية لشركة آفيا أدريا للخطوط الداخلية اليوغسلافية من مطار القاهرة الدولى إلى مطار اللد الدولى ولا اعتقد أن ميكروفونات المطار قد أعلنت عن قيامها ولا عن مطار الوصول !! وكانت هذه هى اول رحلة تجارية مباشرة بين مصر واسرائيل فى التاريخ، سرت روح مرحة بين اعضاء الرحلة وهو مرح خاص مصدره نوع من التوتر الذى يسببه الاحساس بأن ما يحدث خطير للغاية ولم يكن له مثيل.

لم يكن يخطر على بال اى منا أنه سيعيش هذا الحدث وذلك قبل يومين فقط من حدوثه. الجميع هنا كان من المحترفين الذين امضوا سنين طويلة فى مهنة المتاعب اغلبهم قام بالتغطية الصحفية لأحداث خطيرة دولية والبعض الآخر كان يقف بالفعل فى خضم المعارك الحربية هنا وهناك فى العالم.

ومع ذلك كان هناك اجماع على أن ما يحدث هو حدث جلل بحق ولما كان عددنا قليلا بالنسبة لعدد مقاعد الطائرة فقد تشكلت مجاميع حول هذا أو ذاك من الصحفيين ولكن سرعان ما اصبح المصريون منا بطبيعة الحال هم محور اهتمام المراسلين الاجانب.

كان يجلس إلى جوارى زميلى من هيئة الاستعلامات وبدأنا نتبادل أطراف مشاعرنا محاولين تهدئة انفعالاتنا حتى نكون فى صورة جيدة امام "العدو".

واذا بانوار كشافات آلات التصوير التليفزيونى تضاء وبالميكروفون يوضع امامى والاسئلة تطرح على.. كانت هذه هى المرة الأولى التى أجد فيها نفسى امام الكاميرا كمتحدث تطرح على الاسئلة ولا اطرحها أنا كما تعودت أن افعل لسنين طويلة كمذيع فى الاذاعة والتليفزيون وكان اول من طرأت له فكرة اخذ رأى المصريين هو مراسل القناة الثانية فى التليفزيون الفرنسى "بيير سيرا" وهو عليم بشئون امور مصر لأنه عاش فيها اعواما عديدة ناجحا فى عمله فقد كانت سجيته شرقية جداً وردود فعله فرنسية أحياناً فقد كان من جزيرة كورسيكا بل كان يشبه نابليون بونابرت فى ايامه الاخيرة عندما زاد وزنه بشكل ملحوظ وفقد الكثير من شعره!!

·      ما هو شعورك وأنت فى طريقك إلى اسرائيل؟

- مثل شعورك تماما كله انفعال وترقب وأمل .

·      الأمل؟

- نعم فى السلام بالطبع والانفعال سبب دخولى بلاد الاعداء ولا يوجد سلام بيننا أما الترقب فبسبب الخوف على الزيارة من اى حدث جلل قد يفشلها أو يمس رئيس الجمهورية بأية إساءة.

·      ألا تخشى الاسرائيليين وما هى الصورة التى فى ذهنك عنهم؟

- ماذا أخشى؟ لا شىء ! تصورى انهم مثل الاوروبيين فهم اوروبيون فى معظمهم ولا تنس انى امضيت سنين من عمرى فى اوروبا للدراسة وتعلم كما اعلم أن الذين يحكمون اسرائيل هم من الاوروبيين لا اكثر ولا أقل "كانت هذه الاجابات كفيلة بترتيب افكارى الشخصية وإعادة الاطمئنان إلى نفسى.

فقد بلورت هذه الاسئلة دون أن أدرى الموقف على حقيقته وأن ما أخشاه هو المجهول، وبعد الرد على الاسئلة لم يعد المجهول كذلك كما أن الرد على السؤال بهذه الطريقة لحديث سيعرض على رأى عام اوروبى اعاد أيضاً الامور إلى نصابها ووضع المشكلة الفلسطينية فى اطارها الصحيح فى ذهنى وهى أن ما حدث لهذا الشعب العربى هو من صنع اوروبا وأن الذين جاءوا إلى منطقتنا من هناك ليحتلوا الارض هم ناتج مشاكل اوروبية وتمخض عن تفاعلاتها هناك وليس لنا به يد.

لم يمض على جلوسنا فى اماكننا داخل الطائرة زمن طويل قبل أن نسمع صوت قائد الطائرة يعلن عن قرب هبوطنا فى مطار بن جوريون : هكذا وبهذه السرعة؟ مسافة جغرافية قصيرة تم عبورها فى عشرات من دقائق الساعة تفصل بين مسافات لا نهائية من الحواجز النفسية والسياسية! وكانت هذه بالفعل صدمة أن نصل بهذه السرعة فقد كان التفكير كله موجها نحو موضوع مختلف تماما عن السفر فى حد ذاته، وكان مركزا على ما سوف يحدث عند الوصول وما سيتلوه من احداث وكان الحديث عن الاسرائيليين على انهم اوروبيون قد اوحى لنا دون أن نلحظ أن المسافة الجغرافية التى تفصلنا عنه بمثل المسافة المعنوية التى تنئينا عنهم وهى كبيرة ولذلك فإن الادراك بأن الآخر النائى عنى نفسيا هو جارى اللصيق جغرافيا كان مفاجئا ويزيد من تأثيره أن الإنسان يحتفظ به لنفسه حتى لا يبدو جاهلا أمام الاخرين أو قل حتى لا يثير غرائز الصحفيين فى محاولة الحصول على ردود فعل تشكل موضوعا يمكنهم النسج حوله وعليه ليبعثوا به لصحفهم فى صورة مقال أو ورقة تقديم للحدث الذى سيقومون بتغطيته هبطت الطائرة سريعا وكان المطار مظلما جداً من الخارج والهدوء يسود المنطقة حوله تقدمت الركاب بسبب صفتى الرسمية فأنا أحمل جواز سفر خاصا لمهمة حكومية رسمية..

وبالفعل وجدت رجلا فى ملابس مدنية عادية طويل القامة على سلم الطائرة يسألنى إن كنت أمثل هيئة الاستعلامات المصرية؟ فقدم نفسه: مايكل شيلوح رئيس مكتب الاعلام بوزارة الخارجية واصطحبنا إلى داخل صالات الوصول التى كانت هادئة تماما سوى من ركاب طائرتنا لم يحدث مثلما هو معتاد لدى وصول الركاب اى هرج أو صوت عال ولكن كان الهدوء كما يقول احد معلقى كرة القدم فى التليفزيون هو "سيد الموقف" وتقدمت من شباك الجوازات قدمت جواز سفرى المصرى "الخاص" بأن وضعته بتؤدة غريبة تشبه العرض البطىء فى الافلام السينمائية للموظفة الاسرائيلية. نظرت انا اليه فرأيت جميلا جمالا غير عادى فالجواز "الخاص" المصرى لونه ازرق داكن والنسر الذى عليه لونه ذهبى لعلها الرموز وما تتضمنه من معان كثيرة مركزة فيها هى التى اضفت على هذا النسر كل هذا الجمال والشموخ علما بأنه هو ذات النسر الذى يدوخنا السبع دوخات لنحصل عليه على اوراق مصالحنا حتى تسير فى طريقها القانونى ها هو يرقبنى هنا ويبعث إلى بالثقة والفخر – الموظفة الاسرائيلية الجميلة رسمت على وجهها علامات التجهم والجدية وألقت بنظرة سريعة لوجهى وبنظرة أخرى طويلة للجاكيت الذى كنت ارتدية فقد كان يشبه إلى حد بعيد الملابس العسكرية حاولت أن اخفف من حدة الموقف بأن قلت: مفاجأة ؟أليس كذلك؟ لم ترد . قدمت لى مطبوعا صغيرا من اصل وصورتين لأملأ بياناته وكانت هذه هى تأشيرة الدخول إذ اعطتنى صورة منها احتفظ بها داخل جواز السفر دون أن تطبع عليه اى ختام إذ كانوا فى اسرائيل لا يختمون جوازات سفر الاجانب الذين يزورونهم لانهم كانوا يعلمون أن بعض البلاد العربية لا تعطى تأشيرة دخول لمن يكون على جواز سفره تأشيرة دخول من اسرائيل.

لم تنطق بكلمة اخذت الجواز وابتعدت اصطحبنى مايكل شيلوح إلى خارج المطار وركبنا سيارته "زميلى وأنا" وكانت سيارة فلوكس فاجن قديمة من طراز الخنفسة ولكن حالتها جيدة لونها اخضر فاتح.

وبعد دقائق كنا على الطريق السريع المؤدى إلى مدينة القدس التى تبعد بمسافة 40 كم عن المطار. كان الطريق مضاء اضاءة ممتازة وفى حالة رائعة لا مطب فيه ولا قذارة ولا يمكن التفريق بينه وبين اى طريق سريع فى سويسرا – مثلا- لم أتكلم وعادت إلى حالة التحفز. ان العمل الرسمى بدأ هنا مع مرور الوقت بدأ شيلوح الحديث بأن اعتذر لأن السيارة ليست بالجديدة ولكنها سيارته الخاصة إذ أن جميع السيارات الرسمية فى الوزارة محجوزة لاستخدامها اثناء زيارة الرئيس الرسمية التى ستبدأ بعد اقل من عشرين ساعة من الآن ثم تطرق الحديث عن سعر السيارة وكيف أن سعر هذه السيارة فى اسرائيل يساوى ثمن سيارة امريكية جديدة فى نيويورك واكثر – وذلك بسبب الضرائب العالية المفروضة على الاستيراد من الخارج، وإن الحكومات العمالية السابقة هى التى رفعت من قيمة الضرائب – بل إن ضريبة تسيير هذه "اللعبة المهكعة" تكلف جزءا كبيرا من راتبه وقلت فى عقل بالى طيب وأنا مالى؟ هى بالفعل معلومات تفيد فى معرفة احوال البلد ولكن أن تأتى لى من موظف رسمى ونحن فى مهمة رسمية دفعتنى إلى التريث فى اعطائه رد فعل لما قاله وصمت برهة ثم قال " ارجو أن يغير السلام من كل ذلك ..ألست معى فى ذلك؟".

-     نعم أرجو هذا.

ومع اقترابنا من القدس وأضوائها قال "الحجز تم فى فندق "دبلومات" وهو لا يبعد كثيرا عن فندق "كنج دافيد" الذى حجز للرئيس أنور السادات".

وبعد أن تسجل اسمك وتتسلم غرفتك سنتوجه إلى مسرح القدس الكبير، مسرح البلدية الذى يقام به المركز الصحفى العالمى والذى يتم اعداد قاعته الكبرى للمؤتمر الصحفى المشترك الذى سينعقد فى ختام الزيارة بعد غد الأحد".

فندق دبلومات إذن كان يرتاده قبل عام 1967 مراقبو الامم المتحدة الذين كانوا يتمركزون فى المنطقة الفاصلة بين القدس العربية والقدس اليهودية وكانت اولى المفاجأت فى الفندق أن التى استقبلتنى وقدمت لى ورقة بيانات التسجيل كانت ملامحها مصرية سمراء لا هى فى نحافة الاوروبيات الاخريات ولا هى على سمنة الشرقيات "أهلا بيك" قالتها بلهجة مصرية خالصة أنا "نادية" من شبرا اخترت لك غرفة تليق بالمقام! سألتها:"أى مقام " قالت: مقامك عندى كمصرى. ابتسمت ولم ارد على ذلك سوى بكلمة شكرا ..قلت وأنا أملأ استمارة التسجيل:

-     منين فى شبرا؟

-     شارع قطة!! أهلى كانوا يقطنون هناك حتى وقت قريب.

نراك فيما بعد إن شاء الله.

-     إن شاء الله.

صعدت إلى الغرفة وجدتها عادية تشبه اى غرفة فندق ثلاث أو اربع نجوم فى العالم ثم هرولت خارجا واصطحبنى مندوب إعلام وزارة الخارجية إلى مسرح القدس .. ودخلنا أولاً إلى قاعة واسعة رصت فيها مناضد مثل كانتين المدارس أو مطاعم المصانع أو السجون صفان طويلان من المناضد المستطيلة والعمال منهمكون فى وضع التوصيلات التليفونية وتركيب اجهزة التليفزيون والتلكس .. الخ.

ثم ذهبنا إلى قاعة المسرح الكبير على خسبة المسرح وضعت منضدة طويلة يقف حولها عدد من الافراد يتناقشون نقاشا حاميا للغاية وقدمنى مندوب وزارة الخارجية إلى رئيس هذه المجموعة دان باتير المستشار الاعلامى لرئيس الوزراء مد يده اليسرى ليصافحنى نظرة سريعة لذراعه اليمنى اوضحت لى أنها صناعية صافحنى ثم عاد لحديثه مع من حوله لم يكن حديثا بالمعنى المفهوم ولكنه انفعال وصوت عال يقترب من التشابك بالايدى أو على الاقل هذا ما بدا لى لم افهم كلمة مما يقال لانى لم اتعلم العبرية انسحبت بسرعة سائلا المرافق الرسمى عن المكان الذى ستوضع فيه ميكروفونات اسئلة الصحفيين اثناء المؤتمر الصحفى للسادات وبيجن وكانت هذه الميكروفونات هى التى تهمنى .. إذ أن ميكرونات الرياسة كانت من اختصاص سكرتير الرئيس الصحفى "المرحوم سعد زغلول نصار".

صعدت وجلست فى الصفوف الاخيرة وحدى تقريبا اشاهد واتابع ما يحدث على خسبة المسرح هذه المشاهدة كانت ممتعة، اكثر من ثلاثين فردا رجالا وسيدات يتكلمون فى الوقت نفسه.. تقريبا الكل يصرخ حتى تصل كلماته إلى الآخرين .

والنبرة الحادة فى الصوت تكاد تكون نبرة من ينوى فرد ذراعية فى وجه خصمه الكلمات تكاد بالفعل تكون لكمات كانت شيئاً يشبه "الشمطة" الشوارعية فجأة سمعت من يحدثنى بالعربية مستأذنا فى تسجيل حديث لإذاعة "كول اسرائيل" باللغة العربية.. اول سؤال كان عن انطباعى عن التجهيزات التى كانت تجرى لتنظيم الجانب الاعلامى لزيارة الرئيس المصرى للقدس اجبت بأن ما أراه امامى من شجار لا يبشر بأى خير وأن الحال إذا استمرت على ما هى عليه من الفوضى فمن المؤكد أننا متجهون بخطى ثابتة نحو فضيحة مدوية.

ثم تلا ذلك اسئلة عما ستسفر عنه زيارة الرئيس السادات وعن انطباعاتى عن اسرائيل ولم يكن هناك ما يقال إذ أن ما رأيته منها لا يتعدى هذه الخناقة الدائرة أمامنا وتصل اطرافها إلى مسامع الجمهور عبر الميكروفون.

هذا الحديث ادى إلى أن الاسرة فى مصر انزعجت للغاية عندما استمعت لإذاعة بغداد فى نفس الليلة وهى تذيع على لسانك احد المعلقين :" يا فلان الفلانى" المتحدث باسم الخيانة فى إذاعة اسرائيل إنك لا تساوى ثمن الرصاصة التى ستطلق عليك لتخرسك إلى الابد.

بعد أن فرغت من الحديث الإذاعى سمعت صوتا من الخلف لصحفية فرنسية كانت تتردد على مصر كثيرا لكونها رئيسة قسم الشرق الأوسط فى احدى المجلات الاسبوعية الباريسية وتفهم اللغة العربية جيدا قالت لى سريعا "لا تشغل بالك فإن الترتيبات ستكون سليمة تماما اثناء المؤتمر الصحفى انى اعرف مدى اهتمامك بالمؤتمر الصحفى لأن زيارة رئيس جمهوريتك للقدس من منظورك أنت عملية دعائية فى الاساس: أليس كذلك؟

قلت لها : إذا كنت تعتقدين أنى من النوع الذى لا يحترم شهداء بلده الذين ماتوا فى سبيل اقامة سلام دائم فانك على حق فى اعتقادك هذا".

قالت : لا تؤاخذنى وانما انا اقوم بعملى الصحفى كما تعلم" ثم اضافت: "أما عن ردك فى الاذاعة والذى سمعته الآن ورأيك فى هذه الفوضى فأنا لا اتفق معك فى الرأى فاليهود وليس الاسرائيليون فقط هم جميعا كذلك فهم لا يكتمون رأيا" وروت لى كيف أنها لبت دعوة احدى زميلاتها فى مدرسة الادارة العليا الفرنسية لتمضية بعض من اجازة الصيف فى منزل اسرتها الريفى وعلى مأدبة العشاء التى تجمع الاسرة فى أوروبا حدث لها نفس ما يحدث لى الآن من دهشة امام هذه المعركة الكلامية التى تبدو كما لو أنها ستتحول إلى شجار بالأيدى فى أية لحظة إذ رأت الأبناء يتحدثون إلى والديهم والى بعضهم بنفس هذا الاسلوب والجميع أيضاً يتكلم بنفس الوقت بدون اى احترام أو لياقة وظنت أن اجازتها ستنتهى فى اليوم التالى بعد أن يكون الجميع قد نقل إلى المستشفى! ولكن شيئاً من هذا لم يحدث وما هى إلا لحظات وكان الموضوع قد انتقل إلى مرحلة أخرى اكثر مرحا.

فى نهاية "المعركة" التى دارت على خشبة المسرح أمكننى السؤال عن كيفية طرح الاسئلة على الرئيس ورئيس الوزراء من الصحفيين الجالسين فى القاعة وعلمت أن ميكروفونين سيوضعان وسط الممرين اللذين يخترقان الصالة وحددت مكان جلوسى أثناء المؤتمر الصحفى ولزميلى إلى جوار هذين الميكروفونين وخرجنا معا مع مرافقنا الرسمى عائدين إلى الفندق وكان الليل قد انتصف واقترب من الساعات الأولى ليوم السبت.

هنا ادركت لماذا كان المطار هادئا والشوارع فارغة تقريبا من السيارات والمارة إنه "الشباط" اى أجازة السبت اليهودية التى تبدأ مع غروب شمس المعة وتمتد إلى غروب السبت.     

     

 

ليست هناك تعليقات