Google AdSense

آخر الأخبار

كتاب سيرة حياتى


 


سيرة حياتى

المؤلف : الدكتور عبد الرحمن بدوى

الناشر : المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت

تاريخ النشر : الطبعة الأولى 1999

عدد الصفحات : 750 صفحة فى جزأين

لأول مرة نشاهد فيلسوفا مصريا و لاول مرة نناقش فلسفة حقيقية "هكذا كان رأى عميد الأدب العربى طه حسين بعد مناقشته لأطروحة د. عبد الرحمن بدوى لنيل الدكتوراه وكان هذا بمثابة مدح نشرته الأهرام فى 30 مايو 1944

فلم يمكن مستغربا أبدا حين تقرأ مذكرات د. بدوى أن تلحظ وبوضوح إعجابه بالدكتور طه حسين وحماسه الشديد له ، وقد جاء هذا الحماس على حساب العقاد الذى ناله من قلم د. بدوى الكثير إلى الحد الذى يصف فيه كتابات العقاد بأنها تثير السأم والملل.

انها سيرة واضحة مباشرة لا تتجمل ولا تخفى شيئا بدأها د. بدوى وأتمها فى باريس حيث يقيم بصفة دائمة منذ هجرته من مصر 1967 ناجيا بنفسه من الجامعة التى كان اساتذتها قد تحولوا إلى العمل على تعبيره فى المخابرات.

وعن هرجته يقول د. بدوى" ان كنت قد هاجرت فإننى هربت بجلدى من ميدان النقد فيه محكوم عليه بالأهواء.

الدكتور عبد الرحمن بدوى بين دفتى كتابه حاد المزاج قاسى الرأى والتعبير فأحمد أمين على سبيل المثال الذى كان عميدا لآداب القاهرة وقت استعداده لمناقشة الماجستير يصفه بأنه كان رجلا حقودا ضيق الأفق تأكل قلبه الغيرة من كل متفوق ومن كل متقن للغات الأجنبية.

ولأن د. بدوى كان من الاحرار الدستوريين كانتماء سياسى فلم ير من كبار أهل الفكر سوى أحمد لطفى السيد وطه حسين وعبد العزيز فهمى وعلى عبد الرازق وغيرهم ممن ينتمون لنفس الحزب.

وعلى جانب آخر اشتملت سيرة د. بدوى على بحث فى الكلمات الأجنبية التى تجرى على ألسنة أبناء الريف فى القرى التى كان لها احتكاك بالأجانب وكيف انها اختلطت بالكلمات العربية ومرجع ذلك إلى توافد الأجانب على سبيل التجارة والغزو، أو بحثه فى اللهجات المشتركة وجاراتها من الاقطار العربية ولا سيما ليبيا ثم بحثه فى الكلمات المشتركة بين اللغة العربية واللغة الفارسية وتسجيله بأن اللغة الفارسية الحالية تحتوى على 80% منها ألفاظ عربية.

ثم أشار إلى محنة الترجمة فى العالم العربى رغم وجود من يحسنون اللغتين الإنجليزية والفرنسية ورأى أن لذلك سببين أولهما الاعتقاد السائد بأن قدر المترجم أقل كثيرا من قدر المؤلف فامتنع كثيرون عن الترجمة وهذا اعتقاد خاطئ فكم من مترجمين كانوا أعظم قدرا وأخطر أثرا وأعم فضلا من مؤلفين والسبب الثانى هو ان الترجمة الدقيقة أصعب من التأليف وأشد كشفا للخطأ والجهل لأن المترجم رغم على فهم معنى ما يترجم ويحتاج الى اتفان تام للغة التى ينقل عنها والتى ينقل إليها فى حين ان المؤلف لا يعبر إلا عن نفسه.

اشتملت السيرة على نماذج رائعة لأدب الرحلات منذ رحلته الاولى 1937 وهو طالب بالجامعة إلى ايطاليا والمانيا وتسجيله لعادات وتقاليد وثقافات شعوب البلاد التى زارها.

كذلك ضمن صفحات الكتاب مسألة اضطهاد المانيا النازية لليهود وتعذيبهم ويقرر بانها حكاية غير حقيقية لانه كان فى المانيا فى تلك الفترة ولم يلحظ ذلك ويذكر ان حملات النازية على اليهود هى جزء من حملات النازية على كل خصومها فى الفترة السابقة على توليه الحكم عام 1933 فكانت فى الأساسى عملا سياسيا محضا لا يفرق بين يهودى وآخر ويقول إن الأخبار بتعذيب اليهود على ايدى النازية اخبار زائفة ملفقة لا أساس لها من الحقيقة بل كانت من اختراع اليهود.

وعن ثورة يوليو كان لدكتور بدوى موقفه فيقول "والطفيليون والحاقدون ومن لف لفهم من المنافقين والدجالين جاءوا فى 1952 وما تلاها فصبوا سخائه المملوءة بالجحود والعقوق التى ولدها الدخل الكظيم على هذه الصفوة من اعيان الريف وحرروهم من ممتلكاتهم وحرموا البلاد من الانتفاع بتجاربهم فماذا كانت النتيجة انهار الإنتاج الزراعى وتألب الناس بعضهم على بعض وصارت للوشاية والوقيعة اليد العليا وتحول الكل الى فقراء معوزين وكل ما أطلق عليه آنذاك تأميم = تعميم الفقر.

وفى الفاتيكان سئل عن الحوار يين المسيحية والإسلام فقال أنا لا أفهم لهذا الحوار سببا ولا داعيا لأن للإسلام عقائده الخاصة وللمسيحية عقائدها الخاصة بها ولا محل لتأليف ديانة جديدة مشتركة بين هذين الدينين.

وعن تجرته حين اشتغاله مستشارا ثقافيا ومديرا للبعثة التعليمية المصرية فى سويسرا 56 إلى 1958 يقول إنها تجربه مؤلمة ويصف حضوره مؤتمرا للمستشارين الثقافيين المصريين فى عواصم العالم عقده وزير التعليم كمال الدين حسين بقوله كان من المفروض أن يكون القصد من هذا المؤتمر تبادل الرأى فى المشاكل الثقافية بين مصر والبلاد الأخرى والكشف عن النقائص واقتراح العلاج لكن نتيجة المؤتمر كانت على العكس تماما فالذين أوضحوا المشاكل واقترحوا وسائل العلاج قرر وزير التعليم إعادتهم إلى مصر بينما الذين لم ينطقوا بكلمة واحدة طوال عشرين يوما هم الذين أبقى عليهم فى أماكنهم بالخارج.

فهل هناك عبث أكبر من هذا العبث ثم يجيب فيم إذن كان استدعاؤهم وتحمل تكاليف أسفارهم وإقامتهم وبدلات سفرهم إذا كانت هذه هى النتيجة. ان المرء ليحار كل الحيرة فى فهم تصرفات القائمين على تسيير الحكم فى مصر. ان الهوى واللامعقول والاستبداد والأحمق هى التى تحكم.

أما مالم يقترب منه د. بدوى فى سيرته فهى فترة وجوده فى الكويت رغم قضائه فيها فترة اطول من بقائه فى إيران على سبيل المثال فأفرد عن ايران 150 صفحة ويزيد بينما غابت الكويت تماما، كذلك علاقته بالمرأة كانت غامضة إلا من بعض الكلمات البسيطة عن فترة قضاها فى هولندا ونفس الشئ يقال عن ذكره لأبوية وأشقائه الذين لم يكن يذكرهم فى سيرته.

إن أكثر ما يفلت نظرنا ان صاحب السيرة هنا هو فيلسوف كبير مشهود له بالبحث والدأب والمعروف ان السيرة الذاتية تكون انعكاسا لفكر هذه الفيلسوف أو الكاتب مما يزيد من فرصة التحليل والوعى بما يحدث عبورا فوق المواقف الشخصية والانتماءات الطبقية التى يستطيع الوعى بها المثقف غير أن هذه السيرة تشير الى أن صاحبها برغم ما يتمتع به كان غائبا مغاليا الى حد مذهل بل ويخطو خطوات ابعد واعنف حين يسعى إلى تشويه الاخرين بشكل عصابى عات وعنيف انها الشخصية البدوية كما تختزلها سيرته هنا وكما تفصلها حياته كلها.

د. مصطفى عبد الفنى الأهرام 15/5/2000

حين نقرأ سيره د. بدوى لابد وان يكون لدينا عدة اعتبارات

رأى د. طه حسين فيه عند مناقشته لرسالة الدكتوره

موقف د. بدوى عن الحياة كفيلسوف.

تقدير تجربته التى عمرها أكثر من 80 عاما وقراءاته ورحلاته وعلاقاته بالآخرين.

حالته كمواطن مصرى عاش عهدين، الملكى والجمهورى وكان فى منهما قاسما وشريكا.

إن جوانب مضيئة من سيرة حياة هذا المفكر تفيد وتنفع إذا ما توقفنا عندها ولذلك يمكن القول ان هذه السيرة عمل مفيد يقدم صفحات من تاريخنا الثقافى والسياسى والاجتماعى والاقتصادى إلى جانب الفكرى والفلسفى.

سامح كريم الأهرام 25/4/2000


"سيرة حياتى" لعبد الرحمن بدوى والضمير الغائب

السيرة التى صدرت أخيرا لعبد الرحمن بدوى (سيرة حياتى) هذه السيرة الذاتية تعكس ذاتا أو ضميرا غير فاعل غائبا لا يمكننا الجزم بحضوره برغم انه لم يتوقف عن تأكيد ذاته بشكل مستمر طيلة هذه السيرة.

فعلى الرغم من أصداء صاحب هذه السيرة لدى الكاتبين لم يتوقف بين السلب أو الإيجاب أو الاعجاب فى أحيان أخرى فإن الذات البدوية راحت تفرض نفسها فى حالتى الهجوم أو الوجوم بصلف عات مغلفة بحالة من الاعتزاز بالذات الذى يقترب من الحالة النرسيسية كما سنرى إلى درجة يستحيل معها القول ان ضمير الذات يبدو ضميرا فاعلا اللهم إلا داخل الذات وليس خارجها باية حال وهو ما يعكس غرابة أن يعيش مثقف ومفكر كبير مثل عبد الرحمن بدوى داخل الذات، القوقعة المصمتة بشكل غريب.

والذين عرفوا عبد الرحمن بدوى فى أطوار حياته، خاصة المرحلة الباريسية الأخيرة يكون أول انطباع لهم هذه الحالة التى يختلط فيها الحس بشكل ذاتى إلى Auto أكثر من أى شئ آخر فلا يعرف بدوى الا فى حالة الهجوم المستمر والا فى حالة الوجوم المستمر وإلا فى حالة الاختفاء الغامض أو الحضور ضيق الصدر الموغل فى حالة يعجب منها المتابع لفكر هذا الفيلسوف الكبير قرابة مائة عام أو أقل قليلا.

إن حالة السيرة تختلط فيها حالات كثيرة؛ النرسيسية والذاتية الشوفونية وهو ما يصل به وهو من هو إلى قدر كبير من العمومية فى الحكم على الآخرين بل ويخطو خطوات أبعد وأعنف حين يسعى إلى تشويه الآخرين بشكل عصابى عات وعنيف إنها الشخصية البدوية كما تختزلها سيرته هنا وكما تفصلها حياته كلها.

لنكف عن إيراد الانطباعات ولنعد إلى آخر ما صدر له "سيرة حياتى" لنرى كيف بدت هذه السيرة التى دونها صاحبها.

أشرنا إلى أن ثمة حالة من الحس النرسيسى تغلب على صاحب المذكرات وهذه الحالة ترتبط رموزها بالأسطورة الاغريقية التى تحكى ان نرسيس Narcissus هو أول إنسان استطاع أن يرى نفسه فى المرآة، وحين اكتشف هذا الوجه المنعكس فى الماء امتلأت نفسه إعجابا به ومن ثم حاول بعد التحديق إلى صورته فى الماء أن يمسك به قضى شطرا كبيرا من حياته محاولا الإمساك بهذا الوجه الرائع ولما أعيته الحيلة تمنى أن ينفصل هذا الوجه الرائع عن الجسد، ومن ثم كان على "بدوى" = نرسيس أن يحمل إعجابا فائقا بوجهه "فكرة" دون أن يقيم وزنا لأى شئ آخر أى شئ ان يكتشف الإنسان المرآة كعاكس للشكل ويعمل من خلالها بوعى شئ.

إما أن يتمنى أن يذوب الجسد لمصلحة الشكل إلى يصبح أسيرا له فهنا المشكلة نجدها لدى فيلسوفنا الكبير.

ومع اننا لا نخطئ فى سيرة عبد الرحمن بدوى انه يتحرك وسط عالم وأحداث كثيرة طيلة القرن العشرين فإن كل الأحداث توظف لتأكيد الصورة الرائعة لصاحبها. انه من البداية يركز على هذه الحياة الذاتية ولا يولى أهمية كبيرة لسواها قط اللهم إلا حين يأتى دور النقد الهجوم من عل.

ان السيرة تركز على زاوية واحدة، ولكن بعيدا عن هذا الإطار الذى يمثل المجتمع حيث التفاعل الإيجابى الذى تتحدد خلاله - أكثر - طبيعة هذه السيرة ومراحل تكوينها وبرغم ان بدوى يقول لنا إنه قرأ عن جان جاك روسو وبالقطع تعرف على اعترافاته الموسومة بالصراحة الخالصة فى تأكيد حركة الصبى جاك فى إطار متجمعه فإن السيرة البدوية لا ترسم لنا إلا صورة فتى واحد هو بدوى وإلا مواقف شاب واحد من قضايا عصره هو بدوى فالكل باطل وعميل وضئيل وطاغية هكذا رأى كل ما يحدث هو تأكيد لوجود الأب وصياغة لعظمته وعلى العكس رأى مواقف الزعماء المصريين والمفكرين المصريين جزءا من هذا المناخ الردئ فى النصف الأول من هذا القرن وصولا إلى الستينيات، محمد عبده وسعد زغلول ومصطفى النحاس وجمال عبد الناصر وطه حسين وعباس العقاد وأحمد بهاء الذين وعبد الرحمن الشرقاوى.

ولا يكون علينا -بعد عدة صفحات -غير أن نلحظ أن الذات المغرقة فى زهوها تمتزج "بالموقف الاجتماعى" لتغمر عديدا من هذه الأحداث التى يتعامل معها بعنف شديد فالاب ينتمى الى حزب الاحرار الدستوريين ومن ثم فهو ينتمى الى هذه الطبقة الاقطاعية التى مثلت فى اغلبها اعيان الريف ورغم كل السلبيات التى يمكن ان تحيق بهذه الطبقة فى علاقاتها بالفلاحين لقد كان لها مواقف ايجابية اخرى غير ان الذى يهم كاتبنا هنا هو هذه المرأة التى يرى فيها موقعة الاجتماعى فى اعلى درجات هذه الطبقة.

واذا كانت هذه الطبقة الاقطاعية وقد وجدت ردود فعل عاتية من ثورة يوليو "وهى علاقة تحتاج لتأمل اكثر" ومن هنا فإن هذه الثورة ثورة 1952 عملت على ان يتحول الواقع كما يرى الى اعتداء على هذه الطبقة، انه كثيرا ما يتحدث عن لجنة تصفية الاقطاع التى تفرض التهم الكاذبة فى زعمه على عديد من اعيان الريف والتى تفرض الحراسات عليهم والتى ينال اصحابها العقاب على ما اقترفوه- لاحظ العرض -الحكم -معا حين يصابون بابشع هزيمة فى تاريخ مصر وهكذا كما يقول ونستطيع ان نفسر بعض دوافع عبد الرحمن بدوى من اجراءات الثورة ورموزها نقرأ:

كانت اسرتى احدى ضحايا هذه اللجنة العليا لتصفية الاقطاع فيما زعموا فبدأ ان.

ويسهب اكثر فى اجراءات الثورة ضد عائلته وفرض الحراسة عليها بما ينفى عنه سمة الحيدة فى التعامل مع مواقف الثورة بل نسمع لهجة الشماتة فيما عاناه النظام بل مصر كلها عشية هزيمة 1967 .نقرأ هنا.

نال هؤلاء الابطال البواسل اعضاء اللجنة العليا لتصفية الاقطاع بعض العقاب العادل عما اقترفوة.

وتصل بنا سلسلة الاعتداءات -كما يكرر- الى ان المجتمع اصبح فى النهاية مجتمعا بائسا.

ونكتفى من صاحب السيرة بهذه الفقرة نقرأ واصفا رموز ثورة يوليو واجراءاتها الثورية:

والطفيليون والحاقدون ومن لف لفهم من المنافقين والدجالين جاءوا فى سنة 1952 وما تلاها فصبوا سخائمهم المملوءة بالجحود والعقوق التى ولدها الدخل الكظيم عل هذه الصفوة من اعيان الريف وحرروهم من ممتلكاتهم وحرموا البلاد من الانتفاع بتجاربهم فماذا كانت النتيجة انهار الانتاج الزراعى وتالب الناس بعضهم على بعض وصارت للوشاية والوقيعة اليد العليا، وتحول الكل الى فقراء معوزين وكان ما اطلق علية انذاك تأميم = تعميم الفقر.

نتوقف عند هذه الجملة الطويلة ونشير الى بديهية لا تحتاج لذكرها ان سلبيات ثورة يوليو قائمة وموجودة وهى تكون دائما موجودة وقائمة فى اية ثورة تاتى وانظروا الى الثورات الكبرى فى العالم غير ان الثورة لطبيعتها -ونعود الى مصر- كان لا بد ان يصحب السلبيات الايجابيات ولان الثورة لم تات بنظرية او لم تجد امامها نظرية كما صرح قادتها حين جاءوا فقد كان اسلوب التجربة كالصح والخطأ ما يحاول رموز ثورة يوليو الافادة منه وهو لا يعيب الثورة فى بداياتها.

ويكون علينا ان نتوقف من ان الاخر لنرى الى جانب الذات المتسعة مزيدا من الشوفونية لهذا الرجل العملاق بدوى حيث لا يوجد غيره فى هذا الكون وحيث نجد ان هذه الطبقة التى انتمى اليها والده "حزبيا : الاحرار الدستوريين" حتى عام 1950 هى الوحيدة المرشحة لخلاص مصر مما سادها من فساد وانقلابات دستورية وخيانات فردية واغتيالات متلاحقة قبل ثورة يوليو، وان ما حاولته ثورة يوليو بعد قيامها اتخاذ اجراءات انقلابية على شكل قوانين ومراسم شكلا على الاقل هكذا فعلت ثورة 23 يوليو من قيامها حتى اليوم الخ. لم يتذكر بدوى الا سلبيات الثورة ودفاعها عنه.

ونحن لا نريد ان ندافع عن ثورة يوليو على طول الخط ولكن نلفت النظر الى ان السيرة افتقدت تماما التحليل العميق، والذى كان يجب ان يكون هو فارسه الوحيد لعقله العظيم ودراسته الفلسفية وترجماته التى تشهد له.

وهو ما يغرينا بالعود ثانية الى الشخصية البدوية نسبة الى "بدوى" الفيلسوف العربى المعروف الذى اخطأ الطريق

ان اكثر ما يلفت نظرنا ان صاحب السيرة هنا هو فيلسوف كبير مشهود له بالبحث والدأب.

والمعروف ان السيرة  الذاتية تكون انعكاسا لفكر هذا الفيلسوف او الكاتب مما يزيد من فرصة التحليل الوعى بما يحدث عبورا فوق المواقف الشخصية والانتماءات الطبقية التى يستطيع الوعى بها المثقف.

غير ان هذه السيرة تشير الى ان صاحبها برغم ما يتمتع به كان غائبا مغاليا الى حد مذهل.

وبديهى اذا كان كاتب السيرة يتحدث بنفسه عن حياته الشخصية فإنه لا يقدم ذلك بذاته او لذاته وحسب بل المفروض انه يروى سيرة حياته بحضور العقل الأخر الواعى الذى نفترض وجوده هنا وهو موجود بالضرورة غير ان القراءة الاولى لهذه السيرة تقطع ان صاحب السيرة الذاتية لم يستطع ان ينتفع بصاحب السيرة الفلسفية او الفكرية انه لا يروى سيرته الذاتية بحضور المفكر وتماشيا مع الاسئلة التى قد يطرحها عليه الواقع وقبلها يطرحها عليه الاول صاحب السيرة.

ان المفكر او الكاتب لم يعر اهتماما ما بصحب السيرة اللهم الا فى الاجزاء الاولى وتلك التى وجد فيها ارضاء لحالة من العظمة او الذاتية المفرطة ونمنع نفسنا من ان نضيف تفسيرا اخر.

مما يحزن اكثر هنا ان الوعى الفلسفى عند الكاتب لم يحول الذاتية الى نهج اكثر وعيا وقد كان يمكن من خلال السيرة الذاتية ان يرسم صورة نادرة من خلال السيرة الذاتية ان يرسم صورة نادرة لحركتها فى الإطار المجتمعى فيوظف الاجتماعى والسياسى والاقتصادى وباختصار الفكرى ليكتب هذه السيرة التى تمضى بوعى فى سيرورة الزمن وصولا الى مراة التاريخ وليس بحثا فيها عن وجهة العجوز الملئ بالتجاعيد الأن والذى لم يعد هو وجه نرسيس بأية حال الان كان يمكن ان يعى ان هذا الإطار (الفلسفة) كان يمكن ان يصبح هو الإطار العريض لسيرة لا يمثل فيها ضمير الفاعل (الذاتى) غير احد مكوناتها يمكن ان نصل الى دلالات الواقع العريض وتفسيره بموضوعية اكثر وعصابية اقل.

نستطيع القول اذن ان سيرة حياتى لم تخرج عن اطار الذات او -بشكل اكثر دقة- عن مراة نرسيس الذى لم يجد خلالها حتى وجهه الجميل الذى ظل معطبا به.

لقد ظل صاحبنا محدقا فى مرآته غير مدرك ان الزمن يمضى والتاريخ لا يرحم من يخرج عن قوانينه.

واذا كان نرسيس الاغريقى ظل محدقا حتى انفصل رأسه عن جسده ليخلف زهرة نرجس تفتحت فى المكان الذى مات فيه فإن نرسيس العربى ظل محدقا حتى غامت الاشياء بين عينيه صورته التى كانت فى يوم ما رائعة وبلده الذى كان فى وعية لحظة البدء والختام.

اختفى ضمير الفاعل فى هذه السيرة وبقى ضمير الغائب.

الاهرام 15/5/2000


قراءة فى سيرة حياة الدكتور عبد الرحمن بدوى

قليل من الدقة والموضوعية .. يكفى !

وقراءة سيرة حياة الدكتور عبد الرحمن بدوى تفرض على المرء ملاحظة بعض الاعتبارات التى تخصه هو دون سواه من بعدها تبدو الجوانب المضيئة من سيرة حياة هذا المفكر الكبير ، والتى تتصل بطريقة أو بأخرى بتاريخنا الثقافى والسياسى والاجتماعى بوجه عام، ومن هذه الاعتبارات التى ينبغى على المرء مراعاتها.

أولا : رأى الدكتور طه حسين فى عبد الرحمن بدوى بعد مناقشة أطروحته للدكتوراه، وكيف اشتمل هذا الرأى على مديح وتقريظ وهو ما نشرته الاهرام فى اليوم التالي للمناقشة بتاريخ 30 مايو عام 1944 حيث قال: "لاول مرة نشاهد فيلسوفا مصريا ولاول مرة نناقش فلسفة حقيقية" هذا الرأى من جانب طه حسين اوغر قلوب اساتذة عبد الرحمن بدوى وزملائه على حد سواء اذ كيف يكون هو اول فيلسوف مصرى وقد سبقه كثيرون؟ وكيف يكون عمله الفلسفى وحده هو العمل الحقيقى؟ هذا من ناحية ومن ناحية اخرى فإن هذا الرأى ملأ قلب الدكتور بدوى -وقد كان شابا فى السابعة والعشرين -بالعزة والفخار التى قد لا يتحملها منه حاقد او غيور مما ينتج عنه الكثير من التصادم بينه وبين غيره فى الجامعة.

ثانيا : موقف الدكتور بدوى من الحياة كفيلسوف هذا الموقف يختلف ولا شك عن مواقف الآخرين ويكفى ان نعرف ان المشتغل بالفلسفة يكون فى حالة بحث دائم وتساؤل مستمر عن المعانى والدلالات حتى فى ابسط صورها فإذا قلت له: بلاش فلسفة، يعتبر هذا القول منك موقفا من الفلسفة ككل وعليه ان يتخذ هو الاخر موقفا مع او ضد ما تقول واذا بادرته تحية مثل مساء الخير فإنه قبل ان يرد عليك يكاد يسألك عن معنى هذا الخير و دلالته وهل هوخير مطلق ام محدود وهل هو خير خاص به ام خاص بالانسانية كلها..الخ.

ثالثا : تقدير تجربة حياة الدكتور بدوى التى عمرها اكثر من ثمانين عاما وقراءاته ورحلاته وعلاقاته بالاخرين فى هذا العمر سمع ورأى وقرأ وعاشر وليس من سمع كمن رأى وليس من رأى كمن قرأ وليس من قرأ كمن عاشر، هنا يختلف كل واحد عن الاخر فما بالنا لو اجتمعت هذه الحالات فى شخص واحد مثل الدكتور بدوى.

رابعا :حالته كمواطن مصرى عربى عاش عهدين- الملكى والجمهورى- وكان فى كل منهما قاسما وشريكا فالمعروف انه كان من اكثر المرحبين بثورة 23 يوليو 1952 وحيث كان يعتبرها بمثابة الخلاص من الفساد الذى عم وانتشر واستشرى فى ارجاء البلاد وقد لا يعرف الكثيرون ان قائد هذه الثورة الزعيم جمال عبد الناصر وبعض رفاقه من اعضاء مجلس قيادة الثورة قد خصوا قرية شرباص مسقط رأس عبد الرحمن بدوى بالزيارة بدعوة منه ومن اخيه الضابط مهندس عبد المنعم بدوى الذى كان زميلا للرئيس عبد الناصر ابان عملهما فى التدريس بالكلية الحربية قبل الثورة ولم يكن غريبا والامر كذلك ان يتم اختيار قرية عبد الرحمن بدوى للزيارة وان يختاروه عضوا فى لجنة الدستور عام 1953، وان يعين مستشارا ثقافيا ورئيسا للبعثة التعليمية فى سويسرا الا ان  هذا الحماس والترحيب بالثورة من جانب الدكتور بدوى والثقة به والتقدير لعلمه من جانب الثورة سرعان ما انتهى حين فوجئ بفرض الحراسة على املاكه والاستيلاء على الارض الزراعية وتعقبه فيما يكتب او يقول ومنعه من السفر الى الخارج هنا اصبحت الهجرة من مصر التى يحبها ويقدسها املا وحلما هى باختصار تمثل الخلاص من شرور واضرار متوقعة فى أية لحظة.

خامسا: مواصلة تعقبه حتى فى البلاد العربية الشقيقة التى كان يعمل بها استاذا وذلك بالدس والوشاية لدى ذوى السلطان لدرجة اتهامة بالشيوعية والانتساب للإخوان المسلمين فى آن واحد احدى هذه البلاد مع انه لم يكن يوما شيوعيا ولا اخوانيا وهنا اتهموه بالكفر والإلحاد وترتب على ذلك اعتقاله دون سبب مفهوم او إدانة محددة.

ولكل ذلك ترك التدريس فى الجامعة حين تربصوا به وتعقبوه وهاجر من وطنه مصر حين اغتصبت املاكه وهاجر من الوطن العربى كله عندما اعتقل واعتدى عليه دون ذنب او جريمة وهجر لغته العربية عندما هاجموه وكان صادقا حين قال: "أن كنت قد هاجرت فإننى هربت بجلدى من ميدان النقد فيه محكوم عليه بالأهواء".

هذه العبارات وغيرها ينبغى ان يراعيها المرء عن قراءته لسيرة حياة هذا المفكر حتى يمكن تبن ما تحتويه هذه السيرة وتتضمنه او باختصار ان ننظر اليها ونتعامل معها بموضوعية ودقة حتى يمكن الحكم على ما جاء بها حكما حقيقيا.

ولعنا نضرب مثلين للتعامل مع هذه السيرة بالموضوعية والدقة، الاول ويدور حول ما كتبه الدكتور بدوى عن استاذه الدكتور طه حسين بأنه كان يبلغ رجال المباحث عن زعماء الطلبة المعارضين له ويكتب هذه الواقعة على طريقة لا تقربوا الصلاة فلو اننا استكملنا بقية الواقعة كما جاءت فى السيرة لإعطينا طه حسين بعض العذر وبرأنا عبد الرحمن بدوى من نكران الفضل، وحقيقة هذه الواقعة ان بعضا من طلاب كلية الحقوق المعارضين للدكتور طه حسين دأبوا على اعتراض طريقه والهتاف ضده بما لا يليق معترضين اياه وهو كما نعلم جميعا رجل مستطيع بغيره لظروفه الخاصة ولو استكملنا هذه الواقعة على صورتها الحقيقية دون استغلالها وقرأنا كم كان بدوى نفسه مستاء من هذه التصرفات اسفا لما تفرضه ممارسة السياسة من تبعات ولاحظنا إجلال وتقدير الدكتور بدوى لاستاذه طه حسين فى صفحات كثيرة من هذه السيرة لو سجلنا كل ذلك على حقيقته لما تغيرت نظرتنا الى طه حسين كأستاذ ورائد، وعبد الرحمن بدوى كتلميذ لا ينكر فضل اساتذته.

ومثل اخر هو الخاص برأى الدكتور بدوى فى زميله المفكر الراحل الدكتور زكى نجيب محمود والتعليق على ذلك بأن الدكتور بدوى لا يتابع الاهرام حيث من سؤال المحرر يقرأ مقالات زميله ان يهاجمه! ولا يدرى حتى بوفاة هذا المفكر الكبير عام 1992 فلو اننا تحرينا الدقة فى هذا الأمر بالذات لما قلنا ما يسئ لكل من هذين المفكرين لو عرفنا مثلا ان هذه السيرة كتبت قبل وفاة الدكتور زكى او بالتحديد فى عام 1988 وهو ما يمكن ان نتبينه فى ص 378 تحت عنوان استطراد فى شكوى الحال فى نهاية الجزء الثانى من السيرة حيث يقول شعرت وانا اكتب هذه الصفحات الاخيرة فى ايام (1 الى 3 مارس بآلام روماتيزم فى مفصل الساق اليسرى فرحت اشكو حالى بهذه الابيات التى نظمتها فى (5 مارس 1988) ثم يسجل قصيدة مطلعها.

"اجمل الصبا ايام الشباب ان سن الشيخ ملأى بالعذاب"

ومما يؤكد ذلك هو ان السيرة توقفت فى احداثها عند هذا التاريخ فلم تذكر اتجاهه التأليف باللغة الفرنسية فى دفاعه عن القرآن الكريم والنبى صلى الله عليه وسلم وما تبع ذلك من ردود افعال.

ولم يذكر فى قائمة كتبه التى توقفت عند عام 1966 موسوعته الفلسفية التى صدرت فى بداية التسعينيات ولم يذكر بالطبع تكريم مصر له لعلمه وثقافته ونداءها له فى ان يعود الى وطنه واسباب عدم تلبيته هذا النداء وغيرها من احداث تؤكد بانها كتبت من قبل.

اقول لو اننا راعينا قليلا من الدقة والموضوعية عند قراءتنا لهذه السيرة لما توقفنا عند بعض العبارات هذه العبارات التى جاءت استطرادا والتى شغلتنا عن الجوانب المضيئة فى هذه السيرة منها على سبيل المثال لا الحصر.

بحثه فى الكلمات الاجنبية التى تجرى على السنة ابناء الريف فى القرى التى كان لها احتكاك بالاجانب وكيف انها اختلطت بالكلمات العربية، ومرجع ذلك الى توافد الاجانب على سبيل التجارة والغزو او بحثه فى اللهجات المشتركة وجاراتها من الاقطار العربية خاصة ليبيا ثم بحثه فى الكلمات المشتركة بين اللغة العربية واللغة الفارسية وتسجيله بان اللغة الفارسية الحالية تحتوى على 80% منها الفاظ عربية.

الاشارة الى بداية تعرفه على اللغات الاجنبية خاصة الانجليزية والفرنسية والالمانية وقيمة هذا التعرف على لغات الغير والإشارة الى محنة الترجمة فى عالمنا العربى رغم وجود من يحسنون اللغتين الإنجليزية والفرنسية وقد رأى الدكتور بدوى ان لذلك سببين اولهما الاعتقاد السائد بان قدر المترجم اقل كثيرا من قدر المؤلف وكذلك امتنع الكثيرون عن الترجمة مع أن هذا الاعتقاد خاطئ من اساسه فكم من مترجمين كانوا اعظم قدرا واخطر اثرا واعم فضلا من مؤلفين ، والسبب الثانى هو ان الترجمة الدقيقة اصعب من التأليف واشد كشفا للخطأ والجهل لان المترجم مرغم على فهم معنى ما يترجم ويحتاج الى اتفاق تام للغة التى ينقل عنها والتى ينقل اليها فى حين ان المؤلف لا يعبر الا عن نفسه.

الإشارة إلى بداية اهتمامه بالفلسفة واتخاذها علما يتخصص فيه وانتاجه فى هذا العلم وهو ما غطى عشرات الكتب، وابتكاره مذهبا فلسفيا هو الزمان الوجودى الذى يعد اسهاما حقيقا وجديدا فى بناء صرح الوجودية لا علاقة له بتفسيرات او تأويلات فلسفة الغرب الا فى كونها خطوات مكملة للفلسفة الوجودية وهو ما يفسره جهده فى ربط الوجودية بأصول عربية فى الفكر العربى حين أوضح رسوخ الاتجاه الوجودى منذ القدم فى الفكر العربى ولعل هذا ما جعل دائرة معارف للفكر الإنسانى عنوانها الفلسفة فى منتصف القرن العشرين تعتبره هو والفيلسوف البنغالى العظيم محمد اقبال يمثلان فلسفة الشرق كله.

اشتمال هذه السيرة على نماذج رائعة لأدب الرحلات منذ رحلته الأولى عام 1937 وهو طالب بالجامعة الى ألمانيا وإيطاليا بفضل أستاذه طه حسين حيث يسجل ان هذه الرحلة مثلت تطورا حاسما فى حياته وما يسعها من رحلات متتالية فى كل بلاد العالم حين نجده يخص بالحديث منها إيطاليا والفاتيكان والمانيا واسباينا وهولندا وإيران الى جانب فرنسا والبلاد العربية فى هذه النماذج تلمح عادات وتقاليد وثقافات شعوب هذه البلاد.

وطبيعى ان يكون تسجيله باسلوب ادبى هذا الاسلوب الذى بدأ التعرف عليه منذ صباه من قراءاته للمنفلوطى تلك التى وجهته الى الادب والشعر منه خاصة فى اطار النزعة الرومانتيكية ولعل بعض هذه الاثار الادبية لا تزال تتضح عنده بهذه النغمات التى تلمسها فى طبيعة الاقليم الريفى الذى عاش فيه وفى كتابات المنفلوطى.

كذلك تشتمل السيرة على مسألة اضطهاد المانيا النازية لليهود وتعذيبهم وهى حكاية غير حقيقية حيث يسجل بانه لم يلحظ ذلك فى اثناء وجوده بالمانيا فى هذه الفترة التى يدعى اليهود بانهم عذبوا فيها ويذكر ان حملات النازية على كل خصومها فى الفترة السابقة على توليه الحكم عام 1933 فكانت فى الاساس عملا سياسيا محضا لا يفرق بين يهودى وغير يهودى ويورد ترجمة حرفية لمادة عن اليهود بدائرة المعارف اليهودية المطبوعة فى اورشليم ..القدس قائلا .."من فمك ادينك يا اسرائيل" يتبين منها ان موقف النازية كان تجسيدا لشكوى الشعب الالمانى نفسه من تغلغل النفوذ الصهيونى فى المانيا بعد الحرب العالمية الاولى وذلك فى السياسة والاقتصاد والفنون والثقافة الى جانب استغلال الصهيونية للمحن التى حلت بألمانيا غداة هزيمتها، وذلك بسيطرتها على مقاليد الحكم ومفاتيح الاقتصاد ووسائل الإعلام ونوافذ الثقافة على نحو كاد يجعل المانيا مستعمرة يهودية وبؤرة لكل المؤسسات الصهيونية فى العالم رغم ان عدد اليهود فى داخل المانيا كان وقتئذ لا يصل الى ربع المليون نسمة فى حين كان عدد افراد الشعب الألمانى 66 مليون نسمة وينتهى الى القول ان الاخبار الخاصة بتعذيب اليهود على ايدى النازية اخبار زائفة ملفقة لا اساس لها من الحقيقة بل كانت من اختراع اليهود.

وغيرها من جوانب مضيئة من سيرة حياة هذا المفكر الكبير تفيد وتنفع اذا ما توقفنا عندها.

ولذلك يمكن القول ان هذه السيرة عمل مفيد يقدم صفحات من تاريخنا الثقافى والسياسى والاجتماعى والاقتصادى الى جانب الفكرى والفلسفى ولعل الدكتور بدوى يستكملها بجزء ثالث يتضمن الاحداث التالية لما كتبه فى الجزأين اللذين تم نشرهما.

الاهرام 25/4/2000


هناك فرق

تلقيت الرسالة التالية، من الدكتور محمد عبد العظيم سعود أستاذ الرياضيات بعلوم عين شمس والمعار حاليا بجامعة الملك فيصل تعقيبا على ما كتبته فى هذا المكان على مدى الاسابيع السبعة الماضية عن مذكرات الدكتور عبد الرحمن بدوى فيلسوفنا المقيم فى باريس من 33 عاما تقول الرسالة

.. سليمان جودة

تحية طيبة وبعد

اطلعت على ما كتبتموه بجريدتكم الغراء " الوفد" عرضا وتحليلا لمذكرات الدكتور عبد الرحمن بدوى وقد اخذ منى العجب مأخذا لا ينقضى وانا اشاهد كيف تجرأ بعضنا بالتطاول على رموز مصرية عظيمة بهذه الخفة والبساطة فهو اى د. بدوى -العليم بحقائق الامور ولبابها اما امثالنا من العامة فهم لا يرون الا القشور ولا يدركون الا ما يلقى اليهم فيتلقونه مسلمين مستسلمين! الدكتور محمد فوزة ليس صنيع ثورة يوليو فهو مندوب مصر الدائم فى الامم المتحدة منذ شبابه الى ان رأت ثورة يوليو الاستعانة به فليس هو ذلك الغبى العاجز الذى يصفه د. بدوى اذ ان قائد الثورة لم يكن يستوزر الا العجزة.

ونحن نسأل الدكتور بدوى اين كان موقعه فى أزمة مارس 1954؟!! بديهى ان كان فى صف قائد الثورة حتى تم له الاجهاز على الديمقراطية والا لما اختير مستشارا ثقافيا لمصر سنة 1956 فى سويسرا وكلنا يعلم كيف كان يختار اغلب اصحاب هذه المناصب ولكن يبدو ان طموحات د. بدوى كانت اكبر من هذا المنصب بكثير فلما طال الانتظار ويئس او استيأس ترك مصر سنة 1967 ثم جعل يصب جام غضبه وشديد لعناته على رموز مصر اما استاذنا العقاد فلم يملك الدكتور بدوى ان يصف كتاباته بغير انها تبعث على الملل والسأم وهل يمكن ان يصف كتاب مثل "الله" او "الفلسفة القرانية" او "ابن الرمى" او .. أو .. بانه فى مستوى طلاب الاعدادية ، كما وصف كتابات د. زكى نجيب محمود التى مازال يكتبها الى الان فى الاهرام! ونحن نعلم ان د. بدوى قد زار العقاد فيمن زاروا العقاد بندوته الاسبوعية لكن العقاد لم يلتفت اليه فخرج من عنده ناقما ساخطا ولم يعد اليه. لم يكن العقاد رحمه الله مفكرا واديبا وسياسيا (قبل ثورة يوليو) فحسب لكنه كان موقفا بحق وابان ازمة كتاب "فى الشعر الجاهلى" وقف العقاد وهو الوفدى "الكاتب الجبار" كما كان يلقبه زعيم الامة سعد زغلول الى جانب طه حسين متعاليا على كل المواقف التى تستمد من المواقع الحزبية ومتساميا على علاقة التنافس بينهما وعلى الرغم من انه لم يدافع بكلمة واحدة عن آراء طه حسين بيد انه دافع بحرارة عن حرية الباحث فى عرض رأية والافصاح عن النتائج التى يعتقد بصحتها اما د. بدوى فإنه يصرح بان د. طه حسين فقد اعجابه- ويالخسارة طه حسين- لانه انتقل من الاحرار الدستوريين الى الوفد وهذا هو الفرق بين العقاد وعبد الرحمن بدوى ان جازت الموازنة بينهما وكانت علاقة العقاد بجماعة الاخوان المسلمين سيئة بل ربما بالغة السوء والحق لقد افرط العقاد فى الكتابة عن الامام حسن البنا رحمه الله وتزيد فجانبته الموضوعية كما شهد بذلك الاستاذ على ادهم عليه رحمة الله وهو رجل لا يمكن وصفه على اية حال بان لديه ميولا إخوانية ولكن الجماعة افرطت كذلك فى عدائها للعقاد الى درجة التهديد بالقتل اسلوبها الخاطئ فى التعامل مع اشداء مخالفيها فبعثت اليه من يطلق الرصاص من الشارع على حجرة مكتبه وعندما شجر النزاع بين عبد الناصر وبعض صحبه وبين جماعة الاخوان وفى اعقاب حادث المنشية اتصلت الثورة بالعقاد وهى العارفة بأن بينه وبين الجماعة ما صنع الحداد وطرق. معلنة اليه انها بصدد اصدار كتاب عن الجماعة طالبة اليه رأيه فيها وكان رد العقاد: انكم نصبتم لهم اعود المشانق وتريدوننى ان اهاجمهم لكن العقاد لا يهاجم انسانا لا يملك الدفاع عن نفسه لا تشنقوهم اقل رأيى فيهم ولا احسب ان قادة الاخوان بذرعهم ان ينكروا هذه الرواية فقد سمعتها من احدهم. هذا هو العقاد العظيم وليس الذى يستأجر بلطجيين ليتربصا برجل فى الظلام فيضرباه على غرة اذ اعيتهم حججه عن الرد عليها كما فعل ان صدق عبد الرحمن بدوى وفاخر بذلك. وهذا مرة اخرى الفرق بين العقاد ود. عبد الرحمن بدوى ان جازت الموازنة بينهما.

سأكون شاكرا جدا ان تفضلتم بنشر هذا التعليق فى جريدتكم التى تعبر عن حزبكم العريق.

تلك هى اراء الدكتور سعود ومن حقه ان يبدى ما يشاء من الآراء فلا احد ينازعه فى هذا اما رأيى فيها وفى غيرها مما ورد على لسان د. بدوى ، فقد ابديته الاسبوع الماضى والاسابيع التى سبقته ولا احب ان اعيد ما قلته من جديد.

واما موقف د. بدوى من ازمة مارس 54 فمن المؤكد انه كان فى صف الديمقراطية وآراؤه فى مذكراته توضح ذلك، بل انه كان عضوا فى لجنة الدستور التى شكلتها الثورة فى يناير 53 وكان موقفه فى اجتماعات اللجنة وفى لجنة الحقوق والواجبات التى كان عضوا فيها ايضا، موقفا واضحا وحاسما مستندا الى الكثير من المروءة والشرف وليس لاحد بالاجمال ان يصادر على اراء د. بدوى، ولا د. سعود ولا غيرهما من اصحاب الآراء.

الوفد 25/5/2000


عبد الرحمن بدوى .. يفتح قذائفه على جميع الجبهات

سيرة مثيرة !

السفالة والخسة والنذالة..صفات مميزة لأغلب الذين عرفتهم !

نجوت بنفسى من الجامعة بعد أن امتلأت بعملاء المخابرات !

هذه المرة لن يستطيع الدكتور عبد الرحمن بدوى ان ينكر سيرته الذاتية كما انكرها من قبل وحذر القارئ من الربط بين ما فيها وبين حياة مؤلفها..يقصد حياته هو.

وحين اقول ذلك فاننى اشير الى رواية صدرت له عام 1946 وكان عنوانها "هموم الشباب"

وقارئها ليس فى حاجة الى ذكاء وفير ولا الى جهد كبير ليدرك ان بطلها هو عبد الرحمن بدوى نفسه وانه قد حاول بشئ من الايهام وببعض من الايحاء ان يبعد القارئ عن هذا الظن فأدار أحداثها على نحو درامى مثير وجعل لبطلها ثلاثة رفاق أصدقاء أحدهم فنان والثانى عالم والثالث طيار وبين الاربعة تتالت المفاجآت بالرمز- واكتملت الخيوط شيئا فشيئا، وانتظمت كما تنتظم الخيوط فى بيت العنكبوت.

ولان نفس الشئ يأتى احيانا، ليؤكده لا ليمحوه فهو ما حدث بالضبط مع الدكتور بدوى الذى اراد يومها ان يقطع الشك على القارئ فما كان الا ان زاده يقينا على يقين.

قبل ان يتواصل الحديث عن مذكرات الدكتور بدوى شديدة الاثارة التى صدرت قبل اسابيع عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر فى بيروت احب ان اتوقف قليلا عند ذلك التحذير او التنبيه الذى جعله بالخط العريض، فى صدر كتابه القديم هموم الشباب.

فالتوقف فى هذا السياق مفيد ومهم وله اكثر من معنى.

يومها قال : كل محاولة الربط او المقارنة بين بطل هذا الكتاب وبين مؤلفه مصيرها الاخفاق الشنيع فما هو الا عرض لمأساة صديق افضى الى فى لحظاته الاخيرة بمكنونها وما كان لى بها ولا بأشخاصها الاخرين معرفة من قبل على الرغم من وثاقة ما كان يربط بينه وبينى من صلة روحية عميقة وما انا بمسئول عن شئ فيه، دق او جل فليطمئن للجميع بالهم، من هذه الناحية.

وبعد ان اطمأن او ظن الدكتور بدوى انه قد قطع الطريق أمام كل شك قد يساور القارئ فى حقيقة صلته بروايته تلك البديعة مضى وهو مطمئن يقول: وكل مسئوليتى فى اننى اثرت جانب النشر على جانب الطى وهو قد يقصد صديقه اياه ترك لى الامر كيما اختار احدهما فان وجد فيه الشباب القلق- بكسر اللام الثانية- من ابناء هذا الجيل صورة صادقة لشئ ما يجول فى نفوسهم حينما ينطوون عليها ويفتشون فى أتاويهها وكان فى هذا بلسم لقلوبهم المكلومة بجراح الشك والحيرة والتوثب نحو المجد ونشوات البطولة فى اروع معانيها فيها..ونعمت .

وان رأوه -اى الكتاب- من القتامة والغموض والإسراف فى القلق والقسوة فى تشريح الحياة بحيث لا يتصل بنفوسهم القانعة الراضية السمية فهنيئا لهم هذه البراءة والصفاء ولست التمس فيهم ان يعكروهما بقراءة مثل هذا الكتاب وكل ما أسألهم إياه ان يضعوا اكليلا من الزهر الأزرق على قبر بطلة الشهيد ان مروا به عابرين.

امضاء..عبد الرحمن بدوى

رغم انى لا أحب مثل هذه الاستطرادات الطويلة ولا نفضلها الا انى قد رأيت انه من الاليق ان نطالع ذلك التنبيه الغريب بحرفه ونصه والذى لا يزال فى صدر الرواية لا يفارقها فى طبعاتها المختلفة.

وايا كانت اسبابه ودواعيه فهى ليست موضوعات اليوم فموضوعنا وهو المذكرات الجديدة الصادر فى جزأين، من 750 صفحة بعنوان "سيرة حياتى" يظل هو الاهم والاخطر والاكثر تعبيرا عما تعمد الدكتور بدوى فى سيرته الاولى ان يخفيه وعما رأى فى ذلك اليوم البعيد عن قصد ان يغطيه.

ولست قادرا على ان امنع نفسى من التسلل مرة اخرى الى اهداء اختاره الدكتور بدوى من 54 عاما ليقدم به روايته "هموم الشباب" الى القراء وقد كان هو الاخر اهداء اكثر غرابة من التنبيه الذى سبقه بصفحة واحدة واكثر اثارة للخيال.

واذا وضعنا الاهداء الى جانب التنبيه فسوف يتبين لنا بسهولة لماذا اراد الدكتور بدوى ان يطالع القراء روايته القديمة وليس فى اذهانهم ادنى تصور لما يمكن ان يكون هناك من صلة ما بين احداثها  وبين حياة مؤلفها. قال فى اهدائه الى الأفعى الرهيبة التى اوردتنى موارد الخطيئة فى جحيم الشهوات فاقتحمت على برجى العاجى انا الاعزل واختطفتنى ثم قذفت بى من حالق ف التيار المتدفق لنهر الحياة وما كنت اعلم السباحة فهويت فى القاع مرات كانت تنتشلنى فيها بشصها الذهبى الزائف فلا ألبث حتى اغوص من جديد فى أسوأ قرار الى ان اسدل الستار على ختام تلك المأساة.

الهيا اهدى هذه الصفحات التى سطرتها بيمينها سائلا الله لها الغفران ولى الرضوان!

شهيد الشباب

هذا اذن هو الاهداء الى جوار التنبيه والقارئ قادر ببعض الجهد ان يستخرج منهما الكثير من المعانى وربما الافكار وليس فى حاجة الى عون منى ولا من غيرى.

اما السيرة الجديدة فهى مباشرة واضحة لا تتجمل ولا تتزين ولا تخفى شيئا بل تعرى وتعرى قاصدة وعامدة الى حد الإيلام.

وقد بدأها الدكتور بدوى واتمها بمقره فى باريس حيث يقيم بصفة دائمة منذ هاجر من مصر نهائيا فى فبراير 67 ناجيا بنفسه من الجامعة التى كان اساتذتها قد تحولوا الى العمل على حد تعبيره فى المخابرات وفى تحرير التقارير الامنية بعضهم ضد بعض وكان الفساد قد بلغ حدا لا يجدى معه علاج.

وكان الدكتور بدوى قد ولد عام 1917 فى قرية شرباص التى تبعد ثمانية كيلو مترات عن مدينة فارسكور بدمياط.

وكان له من الاخوة والاخوات عشرون وهو الحادى والعشرون وكان والده من اعيان شرباص اذ اشترى فى بدايات القرن نحو خمسمائة فدان من شركة النيل الزراعية التى كانت بدورها قد اشترت الفى فدان من باغوص باشا نوبار نجل نوبار باشا رئيس الوزراء المعروف ثم راحت تبيعها لمن يريد حتى انتهت من بيع المساحة كلها عام 1950.

وقد تلقى الدكتور بدوى تعليمه الابتدائى فى فارسكور التى يصفها بأنها مدينة سمجة وان النفس لا تجد راحة فى الاقامة فيها أبدا.

ومنها الى المدرسة السعيدية الشهيرة فى الجيزة ثم آداب القاهرة بقسم الفلسفة رغم ان اباه كان يتمنى ان يراه وزيرا ولذلك ألح عليه ان يلتحق بكلية الحقوق ولكن الطالب عبد الرحمن بدوى كان قد استقر عزمه على ان يدرس الفلسفة وان يتخصص فيها فكانت رسالته نيل درجة الماجستير عام 41 عن "الموت فى الفلسفة المعاصرة". والدكتوراه عام 44 عن "الزمان الوجودى" وفى الرسالتين كان طه حسين حاضرا وعضوا ومناقشا ومانحا للدرجة معا..مع الشيخ مصطفى عبد الرازق فى الاولى وبول كراوس فى الثانية.

وقد شب عبد الرحمن بدوى على الاعجاب الشديد بعميد الادب العربى، وعلى الحماس المتواصل له الى الدرجة التى هدد معها استاذه فى السعيدية بالقتل على الملأ لانه اى الاستاذ كان قد قال شيئا فى طه حسين لم يعجب عبد الرحمن بدوى ومن الواضح ان ذلك الحماس لطه حسين قد جاء على حساب العقاد الذى ناله من قلم الدكتور بدوى الكثير الى حد انه قد وصف كتاباته اى كتابات العقاد بانها تثير السأم والملل فى الوقت الذى كان يحس كلما قرأ لطه حسين بالرغبة فى الخلق الفنى وفى الابداع وفى التحليق مع الآفاق العليا للسماء.

ولست ارى هجوم الدكتور بدوى على العقاد وهو هجوم حاد قاس ظالم موجع لست اراه الا على سبيل التعصب المبكر والتحزب العاطفى إذا صح التعبير لطه حسين هو تعصب او تحزب يبدو انه قد سيطر على عقل الدكتور بدوى طويلا واقام فى مواجهته قيودا وحوله اسوارا بحيث لم يعد يرى -لفترة ليست قصيرة- فى الدينا غير طه حسين.

ولم يكن وحده على كل حال فى هذا الطريق فلقد ظل انيس منصور هو الاخر لسنوات عدة اسيرا للاستاذ العقاد حتى ادرك ذات يوم انه من الممكن للمرء ان يرى الاثنين معا وان يكون اعجابه بهما معا وليس من الضرورى ان يقوم الاعجاب باحدهما على نفى الاخر.

ويبدو الدكتور بدوى على طول الكتاب حاد المزاج عنيفا اذا انتقد، مؤلما اذا ابدى رأيا فى الآخرين قاسيا كأبلغ ما تكون القسوة اذا تحدث عن بعض زملائه واستاذته لا يمارس ولا يجادل ولا يساوم وفى مدرسة السعيدية تعرض الدكتور بدوى لعقاب كان بريئا مما عوقب من اجله فما كان منه الا ان اطلق احكاما عامة على الناس جميعا واصفا كثيرين ممن يلقاهم بعد ذلك بأن من صفاتهم المميزة السفالة والنذالة والخسة رغم ان الموقف الذى تعرض له فى السعيدية موقف عادى ويمكن ان يحدث فى اى مدرسة او فى اى مكان.

انه مثلا يصف احمد امين الذى كان عميدا لآداب القاهرة وقت ان كان بدوى يتهيأ لمناقشة الماجستير يصفة بانه كان رجلا حقودا ضيق الافق تأكل قلبه الغيرة من كل متفوق ومن كل متقن للغات الأجنبية لأنه كان لا يعرف لغة أجنبية فيما عدا قشورا تافهة من أوليات اللغة الانجليزية ثم يمضى واصفا اياه بعبارات قاتلة ليس اولها العجز ولا اخرها الحسد.

والحقيقة انى لا ارى مبررا لما يراه ويبديه فى حق احمد امين ثم اننى لا اعرف كيف يحقد العميد على تلميذ عنده، قد يحقد وهو بشر على زميل ممن ينافسونه على شئ مشترك وقد تأكل الغيرة قلبه من واحد ينازعه العمادة مثلا او الإدارة فى الكلية او يشاركه تخصصه اما ان يكون الحقد على تلميذ كان قد حصل وقتها بالكاد على الليسانس ويستعد لمناقشة الماجستير فهو شئ لا يستسيغه العقل ولا يقبله حتى ولو كان التلميذ من النجباء النابغين اذ مهما كان نبوغه وتفوقه وعبقريته فهى كلها لن تنال من العميد فى شئ ولن تهدده فى شئ بل قد تضيف إليه فى ميزان من الموازين.

وق ورث الدكتور بدوى عن والده انتماءه السياسى الى حزب الاحرار الدستوريين قبل الثورة.

ولست ارى فى انتمائه هذا سواء كان اصيلا او موروثا لست ارى فيه شيئا يعاب انما العيب كله ان يحمل الرجل على الوفد حملة ظالمة قاسية لا لشئ الا لانه كان خصما للأحرار الدستوريين او بمعنى ادق كان الاحرار الدستوريون من بين خصوم ومنافسى الوفد السياسيين.

وهو لا يرى هذا فقط وانما يرى ان كبار اهل الفكر والعلم كانوا من الاحرار الدستوريين ويضرب امثلة بأحمد لطفى السيد وعبد العزيز فهمى ومحمد حسين هيكل وطه حسين ومصطفى وعلى عبد الرازق وغيرهم وعندما يذكر اسم طه حسين يفتح قوسا ويقول : حتى 1932!

فهل يا ترى يا دكتور بدوى كان طه حسين عظيما من كبار رجال الفكر والعلم حتى هذا التاريخ ثم لم يعد كذلك بعد هذا التاريخ لا لشئ الا لانه خرج على الاحرار الدستوريين. اننى اريد ان اسأله فى عهد من استطاع طه حسين مثلا.. مثلا ان ينفذ برنامجه فى مجانية التعليم.

الم يكن ذلك فى وزارة الوفد الاخيرة من 50 الى 52 والتى كان عميد الادب العربى وزيرا للمعارف فيها وهو يقول ان الوفد قبل الثورة لم يقم بأية اعمال انشائية مفيدة.

ولا اعرف فى واقع الحال كيف ويجعل رجل فى حجم عبد الرحمن بدوى تقييمه للوفد حتى لغير الوفد مستندا الى ما قام به من اعمال انشائية مفيدة مثل بنك التسليف الزراعى الذى انشأه اسماعيل صدقى باشا.

وسوف اصدقه ولا اقول اجاريه فى ان اسماعيل صدقى قد اقام اعمالا انشائية مفيدة وانه كان بالتالى اعظم من الوفد بالغائه لدستور 23 وباعتدائه المتكرر على الدستور وباحتقاره للشعب رغم انه قد اسس حزبا ولد ميتا وسماه حزب الشعب. سوف اصدق كل هذا ولا انكره او  اعارض فيه.

ولكن على وجه اخر ايد ان اسأل الدكتور بدوى: لماذا لما اجريت انتخابات 1924 سقط فيها اسماعيل صدقى باشا وكان قبلها وزيرا وشهيرا لماذا سقط فى دائرته بالغربية امام محام غير معروف اسمه نجيب الغرابلى كانت كل مؤهلاته اثناء الانتخابات انه وفدى؟!

وقد بلغت الدهشة بابناء الدائرة وعامة الناس فى الحياة السياسية فى ذلك الحين ان اطلقوا على الغرابلى لقب "قاهر صدقى"

ثم..إذا كان الوفد لم يقم بأعمال انشائية مفيدة فلماذا سقط يحيى باشا ابراهيم رئيس الوزراء الذى اجرى الانتخابات نفسها لماذ سقط وهو رئيس وزراء امام مرشح الوفد احمد مرعى والد المرحوم المهندس سيد مرعى ولم يكن احمد مرعى بالتأكيد قادرا على ان يقهر رئيس الوزراء لو لم يكن الوفد هو الذى رشحه امام من؟! امام رئيس الوزراء الذى تجرى الانتخابات تحت اشرافه وادارته.

ولماذا .. ولماذا؟ وما معنى هذا ؟

ان الدكتور بدوى فى حاجة الى ان يراجع بعض مواقفه التى اقام أحاكمه فيها على عاطفة جارفة لا تعرف العقل ولا تهابه ولا تخشاه.

الوفد 6/4/2000

 


عبد الرحمن بدوى يفتح قذائفه على جميع الجبهات ..

واحد من الوزراء ! محمود فوزى .. نموذج صارخ للعجز الفاضح فى الذين "استوزرتهم" ثورة يوليو !

يوليو أكبر كارثة حلت بنا منذ الفتح العثمانى !

الآراء التى أبداها الدكتور عبد الرحمن بدوى فى الوزير محمود فوزى عن تجربة بينهما تهبط به من المكانة التى يضعه فيها كثيرون الى درك اسفل مقالات زكى نجيب محمود فى "الاهرام" .. لا تزيد على مستوى طالب الاعدادية !

ان الاسلوب الذى ابدع به الدكتور بدوى مذكراته سيرة حياتى بما فيه اى الاسلوب من قوة ومن سحر ومن بيان انما يشير فى الواقع الى حساسية ادبية من طراز رفيع والى قدرات عالية على تذوق اللغة والنفاذ الى اسرارها البعيدة.

كما ان الطريقة التى يفكر بها الرجل والتى جعلته يتناول الجميع هكذا بصراحة مطلقة او بالقدر المتاح امامه من الصراحة هذه الطريقة فى التفكير وفى النظر الى الامور وفى تقييم الاشياء والاشخاص انما تومئ هى الاخرى الى عقل مبتكر خلاق مقتدر لا يهاب احدا ولا شيئا ونحن احوج ما نكون اليه.

واذا كان المقام مقام اختيال ومباهاة فإن للدكتور بدوى فى الأسواق حاليا 120 كتابا هى حصيلة رحلة طالت واستطالت مع الخلق ومع الابداع والابتكار وبدأت عام 1939 عقب تخرجه فى آداب القاهرة بعام واحد بكتابه نيتشه وهو كتاب احدث وقتها دويا هائلا وتأثر به وبأفكاره كثيرون كان ابرزهم عبد الناصر والسادات والبطل احمد عبد العزيز الذى سقط شهيدا فى حرب 48.

وعندما تخرج د. بدوى عام 38 من قسم الفلسفة كان ترتيبه الاول على الكلية كلها وليس على القسم فقط بطلابه الإثنى عشر وكذلك كان ترتيبه فى سنوات الدراسة الجامعية الثلاث السابقة .. الاول دائما انه من يومه مثل الديك الفصيح الذى يخرج من البيضة وهو يصيح.

وكان صدور كتابه الاول والكثير من كتبه بعد ذلك عن مكتبة النهضة المصرية فى مقرها الكائن فى 9 ش عدلى (15 ش المدابغ سابقا) وهو يصفها بأنها ناشره الدائم، ولا اعرف كيف لم يفكر والحال كذلك فى ان تخرج مذكراته هذه عنها حتى تتاح لاكبر عدد ممكن من القراء فهذا امر يهمه بكل تأكيد ولا ادرى كيف فاته ولم ينتبه اليه.

اننى اتمنى ان يفكر فى ان يعيد طبع المذكرات من عند ناشره الدائم الذى رفض مؤخرا عرضا بالملايين لتحويل المكتبة الى فرع لاحدى شركات الاطعمة الجاهزة السريعة التى تصورت انها يمكن ان تزيح فيما تزيح الملايين هذه الايام معلما من معالم منطقة وسط البلد.

ولابد ان صدور مذكرات الدكتور بدوى من مصر بسعر معقول على خلاف ما هو حاصل مع ناشر المذكرات اللبنانى المؤسسة العربية للدراسات والنشر سوف يجعلنها وهى شديدة الاهمية وكبيرة القيمة غذاء فى كل فم فصدورها من هناك جعلها حكرا على الذين يملكون المشكلة انهم  فى مصر ليسوا الذين يقرأون.

لقد خرج د. بدوى من مصر فى فبراير 67 ناجيا بنفسه من المهالك التى كانت تحيط بالبلد وقتها قبل ان تحيط به هو ويبدو انه من يومها قد قرر ان يقطع كل صلة له بمصر مادامت ثورة يوليو هى التى تحكم.

انه يصفها بانها اكبر كارثة حلت بمصر منذ الفتح العثمانى عام 1517.

وهو لا يفعل هذا عن عاطفة مشبوبة ولا عن مشاعر مدفوعة لا تعرف التعقل والاتزان.

لقد كان الرجل متحمسا للثورة فى بداياتها رغم ان أهله وهم من اعيان شرباص بفارسكور قد اضيروا منها ابلغ ضرر بل انه كان واحدا من جنودها عندما عمل مستشارا ثقافيا فى سويسرا. من 56 الى 58.

ولقد اتيح له خلال عمله فى سويسرا ان يقترب من محمود فوزى وزير الخارجية فى ذلك الوقت ولسنوات طويلة بعد ذلك واول رئيس وزراء فى عهد السادات.

وقد كان محمد حسنين هيكل هو الذى رشحه للسادات كى يكون رئيسا للوزراء.

ومن قبل كان هيكل هو الذى تولى تلميعه وتسليط الاضواء عليه وتقديمه ثم تصديره للقراء باعتباره سيد الدبلوماسية المصرية.

وسوف تكون رؤية د. بدوى لمحمود فوزى صدمة قاسية للجميع جميع الذين عرفوه او سمعوا عنه وجميعهم تقريبا يضعونه فى مرتبة من مراتب التقديس.

والمشكلة ان الدكتور بدوى لا يقول كلاما انشائيا ولا يخرج علينا بان شكل محمود فوزى مثلا لم يكن يعجبه او ان منظره لم يكن يريح او ان دمه لم يكن خفيفا على قلبه.

انه يرى كلاما محددا ويذكر وقائع بعينها عندما كان عليه ان يستقبل فوزى عام 56 فى سويسرا باعتباره -اى بدوى -مستشارنا الثقافى هناك فى تلك الأيام.

كان فوزى ذاهبا للقاء "داج هرشولد" سكرتير عام الامم المتحدة فى ذلك الوقت لبحث تداعيات تأميم قناة السويس وكانت عواصفها تتجمع وتتشكل كتلا فى الافق كل يوم.

والتأميم كما يراه د. بدوى اريد به من جانب عبد الناصر ان يكون عملا سياسيا مفاجئا يكفل له الشهرة والدوى حتى ولو جر على مصر بعد ذلك الخراب ولكن تلك حكاية اخرى.

المهم ان فوزى وزير خارجيتنا لما نزل من الطائرة سأله احد الصحفيين وهو لم يزل فى المطار عن رأية فى القضية التى جاء من اجلها فأجاب ان الجو جميل فى جنيف والسماء صافية.

وقد تصور الصحفى ان الوزير اساء فهم السؤال فأعاده عليه فأعاد الوزير نفس الجواب وسط دهشه بالغة من الحاضرين، وتوجه احد الصحفيين الى الدكتور بدوى سائلا فى دهشة اكبر ما هذا الذى يقوله وزيركم ماذا اصابه؟

قال د. بدوى ابتسمت وقلت ربما كان هذا ما يسمى بالدهاء الدبلوماسى.

ثم يضيف د. بدوى واصابتنى حيرة وخجل من هذا الوزير الذى لا يستطيع ان يرد بكلمتين تتعلقان بالموضوع ولا تلزمانه بشئ وازددت يقينا من بلاهة هذا الرجل وانا آسف للتعبير ولكنه على كل حال ليس من عندى الذى زمر له بعض الصحفيين منذ ان كان ممثلا دائما لمصر فى هيئة الامم من 27 الى عام 52 لما ان جاء الى برن المدينة السويسرية  الشهيرة واقام له السفير عشاء حضره اعضاء السفارة وكان الهدف من الاجتماع به استيضاح الامور الجارية والافادة من توجهاته لكنه امضى السهرة كلها طوال ثلاث ساعات دون ان ينطق بكلمة واحدة فى موضوع الساعة وانبرى مستشار السفارة وهو شخص ناقص العقل وتحدث عن صيد الاسود فى الصومال وكينيا يوم ان كان عضوا فى هيئة الوصاية على الصومال قبل استقلاله.

يقول د.بدوى : وكلما حاولت ان اسأل محمود فوزى عن رأيه فى الموقف الحالى كان يشيح بوجهه ويطلب من ذلك المستشار ان يتابع حديثه عن صيد الاسود فى الصومال وكينيا وهمست فى اذن الملحق العسكرى ليتدخل ويوقف هذا الهراء فاعتصم بالصمت.

ثم يقول : وهكذا ايقنت ان وزير الخارجية المصرى محمود فوزى ما هو الا رجل لا يدرى فى السياسة شيئا ثم سمعته بعد ذلك يخطب فى مجلس الامن عند عرض العدوان الثلاثى على مجلس الامن فسمعت شخصا عييا و (. ) لا يستطيع ان ينطق بحجة فضلا عن صوته الذى كان يموء به مواء القط المخنوق.

وفى الكتاب اضعاف هذا الكلام وتلك الاوصاف عن محمود فوزى وفيه مما استعضت عنه بالنقاط بين الاقواس مما لا استطيع ان انشره هكذا على عامة الناس.

وكما قلت فإن من حق الدكتور بدوى ان يبدى أراءه كما يحب وليس من حقنا ان نصادر عليه حقه هذا ومن واجب الذين يملكون رؤى او آراء مختلفة ان يردوا عليه وان يقولوان

وهو قد افاض فى الحديث عن محمود فوزى باعتباره فى نظره نموذجا صارخا للذين يتولون أرفع المناصب فى مصر منذ 1952.

وهو ايضا يرى ان فوزى كان يتصف بالعجز والعى، وانهما صفتان كانتا مطلوبتين فى وزراء واعوان عبد الناصر.. ولعله هنا يتفق مع الوزير احمد طعيمة وزير اوقاف عبد الناصر الذى قال فى كتابه الصادر مؤخرا بعنوان "شاهد حق" ان العجز كان احدى الصفات التى يتحراها عبد الناصر فى معاونيه.

وقد يكون الدكتور بدوى على حق .. فى حديثة عن محمود فوزى .. اقول قد .. ولكن تعميم الحالة على جميع رجال السلك الدبلوماسى منذ نشأه الخارجية المصرية مثلما فعل د. بدوى مسألة صعبة وفى حاجة الى تفكير والى تمهل فى اطلاق الاحكام.

انه يرى محمود فوزى مجرد نمرة كان يكتمل بها عدد الوزراء.

والحقيقة انه يلمس بتوصيفه هنا مشكلة كبرى يعرفها نظام يوليو الى اليوم وهى مشكلة الوزير الموظف لا "الوزير السياسى" الذى عرفناه طوال العهد اليبرالى" من 1923 الى 52.

ان الوزير فى نظام يوليو يأتى كما يراد له لا كما يريد هو وعليه ان ينفذ ولا يناقش وان يطبق سياسة سابقة عليه لا يصنعها ولا حتى يشارك فى صنعها.

وقد سمعت يوما من رجل ثقة كان قريبا جدا من السادات انه -اقصد السادات- عرف ذات يوم ان احد وزرائه له رأى معين فى قضية ما كان للسادات فيها رأى مختلف ولما فهم السادات ان الوزير متمسك برأيه صاح على مسمع من راوى الحكاية هو فاكر نفسه وزير بصحيح انا لو نزلت دلوقت فى الشارع فسوف اعين اول شخص يقابلنى وزيرا مكانه.

والقصة حقيقية مائة فى المائة وقد خرج الوزير اياه من وزارته بعدها بأيام.

وهى على كل حال ترينا بأصدق بيان كيف ترى يوليو موقع الوزير وكيف تنظر الى الشخص الجالس فيه.

والذى يقرا مذكرات اسماعيل فهمى او بطرس غالى او محمد ابراهيم كامل سوف يلاحظ بوضوح ان استقالة ابراهيم كامل وفهمى على وجه الخصوص من الوزارة كانت راجعة فى احد اسبابها الى الطريقة التى كان السادات يتعامل بها معهما.

وما يتصل ببطرس غالى او اسماعيل فهمى او ابراهيم كامل ليس جديدا فقد عرفناه وقرأناه فى اكثر من موضع.

وابراهيم كامل نفسه يروى فى مذكراته انه لما طلب من السادات قبيل كامب ديفيد ان يبدأ بالتشدد حتى لا يتعرض لضغوط التنازلات فوجئ بالسادات على مسمع من د. مصطفى خليل وسيد مرعى وحسن التهامى وغيرهم يسخر منه ويضحك  وهو يقهقه ويقول : بقى انت فاكر نفسك دبلوماسى يا سى محمد والله ما انت دبلوماسى.

ولكن هذه الصورة الجديدة لمحمود فوزى مفاجأة ومفاجئة لنا تماما وهى كما ترى شديدة القتامة والسوء والمشكلة انك لا تستطيع ان تجادل الدكتور بدوى فيها لانه لم ينقلها عن آخرين ولم يسمعها من احد نقلا عن احد انه قد عاشها وعاينها ورآها بنفسه وكما قلت فإن ما نقلته عنه جزء من كل كثير.

ومحمود فوزى ليس فريدا فى هذا الميدان، امام قلم د. بدوى الذى يطيح بثوابت كثيرة.

فمن قبل فوزى كان زكى نجيب محمود فى نظر د. بدوى يكتب مقالات لا يزيد مستواها على مستوى طالب الاعدادية.

انه رأيه فى مقالات زكى نجيب تماما كما سبق وابدى رأيه اياه فى كتابات العقاد وفى كلتا الحالتين له ما يشاء فما يعجبنا قد لا يعجبه.

ولكن من العيب الا يكون الدكتور بدوى قد عرف الى اليوم ان زكى نجيب محمود قد رحل من دنيانا من سبع سنوات.

ذلك انه يصف مقالاته التى لا يزيد مستواها على مستوى طالب الاعدادية ويقول تماما كما يفعل الآن فى صحيفة "الاهرام".

ومن العيب ايضا الا يكون قد بلغه ان المجلس الاعلى لرعاية الفنون والآداب قد تحول اسمه الى المجلس الاعلى للثقافة من عشرين عاما .. او يزيد.

ومن العيب كذلك ان يعترف بانه هو الذى دبر حادث اعتداء بالركل والصفع والضرب على العقاد عندما اعيادهم فى مصر الفتاة -وكان د. بدوى عضوا فيها- الرد عليه بمنطقه وحججه وبراهينه.

كيف ارتضى ضمير الدكتور بدوى الادبى، وهو صاحب الكلمة والقلم ان يواجه مقالات العقاد فى هجومه على مصر الفتاة باثنين من الرجال يتربصان به على مقربة من مسكنه فى 13 شارع سليم الاول بمصر الجديدة ثم ينهالان عليه ركلا وصفعا.

والغريب ان د. بدوى يعلق على الواقعة ويقول : فخرس العقاد خرسا تاما ولم يعد الى الكتابة ضد مصر الفتاة.

وما فعله هو وزملاؤه ضد العقاد ليس فيه بالتأكيد- شئ من الشجاعة ولا من الرجولة ولا من الشرف.

وقد يكون د. بدوى حرا فى ان يصف الجراح الدكتور على ابراهيم باشا، بانه كان جبانا هيابا للسلطة وانه لم يكن له مبدأ فى السياسة بل كان انتهازيا يأكل على كل الموائد مهرجا يحب الظهور فى الامور العامة التى لا تكلفه اية مخاطرة.

وقد يكون حرا فى ان يرى عبد الوهاب عزام عميد الآداب وقت ان كان بدوى مدرسا بها قد يكون حرا فى ان يراه خسيسا وقحا حاقدا متاجرا بالعروبة والإسلام وهو يسرد الوقائع التى دفعت به الى القاء مثل هذه الاحكام وفى اسباغ مثل هذه الصفات ولكننا لا نستطيع ان نقر صنيعه مع العقاد حين بعث اليه بشقيين يعتديان عليه تحت استار الظلام ولا نعرف كيف اطمأنت نفسه الى ان يرى طه حسين عظيما حتى عام 32 حين خرج على الأحرار الدستوريين فقد كان خروجه عليهم مقرونا فى نظر د. بدوى بفقدانه لعظمته ومكانته وهيبته

ولا نتصور ايضا ان الدكتور بدوى لم يقرأ الأهرام من سبع سنوات ليعرف ان الدكتور زكى نجيب محمود قد كف عن الكتابة فيها من عام 93

فالاموات بالطبع لا يكتبون

الوفد 13/4/2000


الفيلسوف الهارب !

عبد الرحمن بدوى يفتح قذائفه على جميع الجبهات

بدوى لاذ بالفرار إلى باريس من 33 عاما ولا يجب أن يعود

ولا حتى بعد عمر طويل .. !

كيف يتأتى لفيلسوف أن يعيش فى دولة العملاء والوشاة والمخبرين ؟!

حيثيات الحم فى قضية قرية كمشيش :

أبناء القرية ذاقوا من الهوان ما لم تعرفه مصر فى تاريخها القديم..والحديث !

اما ان عبد الرحمن بدوى هارب من 33 عاما ولا يريد ان يعود الى مصر مرة اخرى ولا حتى بعد عمر طويل فهذا صحيح.

واما لماذا هرب ولاذ بالفرار فى فبراير 67 فمن المؤكد انه لم يفعل ذلك لانه مثلا مطلوب من العدالة او لانه يتخفى من مطاريد الجبل او لانه يستحى ان يطلع على الناس بما ارتكب ، أو .. أو..

كل ذلك غير صحيح والصحيح انه نجا بنفسه لانه كان حتما عليه -فى تقديرى- ان ينجو من بلد كانت ولا تزال تاكل موهوبيها كما تأكل النار الحطب.

لقد جاءته دعوة كلية الآداب بجامعة باريس فى ذلك الوقت وكأنها طوق نجاة القوه لغريق يغلب الموج متشبثا باحدى يديه، ومستميتا بالاخرى كى يبلغ الشاطئ .. اى شاطئ فيتكئ عليه .

ولم تكد قدماه تطآن سلم الطائرة حتى احس بان جبلا قد انزاح من فوق صدره وانه للمرة الاولى من سنوات طويلة يستطيع ان يتنفس كسائر البشر وان يعيش فهتف من اعماقه وهو يلقى نظرته الاخيرة على وطنه البائس وداعا ايها الوطن المكبل بالقيود الحافل بالجواسيس والمخبرين.

من يومها لم يفكر فيلسوفنا الكبير الدكتور بدوى فى ان يرى مصر مرة ثانية ولم يدخلها على مدى الثلاثة والثلاثين عاما الا ثلاث مرات كما فهمت من شقيقه الدكتور ثروت بدوى اثنتان منها كانتا لاسباب قهرية تتصل بعلاج عينيه لدى عبقرى طب العيون الراحل د. على المفتى وفى المرات الثلاث كان يعاود الهروب وهو خائف يترقب.

واتمنى ان يتوقف الذين يزايدون عليه عن العزف على اسطواناتهم المشروخة التى تبدأ بحب الوطن وتنتهى بالعشق والموت فيه فكلها عبارات انشائية وكلمات فارغة لا تجدى فى شئ وقد حفظناها حتى مللناها.

وانا على يقين من ان الدكتور بدوى يعرف قدر بلاده اكثر الف مرة من هؤلاء الذين يصدعون دماغنا ليلا ونهارا بأنهم فضلوا البقاء هنا عندما توخى الاخرون الهرب.

على يقين من هذا وعلى يقين من شئ اخر وهو ان الذين افزعتهم كلماته وارقت مضاجعهم سهامه المشرعة هؤلاء لا يريدون لهذا البلد ان يصحو يوما ولا ان يستيقط من غفوته ولو ساعة واحدة من نهار لان معنى صحوته ويقظته ان يذهبوا هم الى حيث يجب الا يعودوا والى حيث يتعين الا نرى لهم وجها ولا نسمع لهم صوتا فلقد تعفنت جثتهم فى اماكنها وصاروا على حد الوصف القرآنى العبقرى اشبه شئ "بالخشب المسندة" الى هؤلاء الذين استبشعوا احكامه وبعضها لا كلها فيه شئ من ظلم والى هؤلاء الذين ينبغى ان يتواروا وان يذهبوا وان يستحوا اليهم جمعا سوف اسوق شيئا واحدا فقط من تلك الاشياء التى لم يكن عبد الرحمن بدوى ولا الف "بدوى" مثله يستطيعون الصمود امامها او الوقوف فى طريقها.

والشئ الذى اقصده هو حيثيات محكمة الجنايات فيما قضت به لاسره الفقى فى قضية كمشيش الشهيرة التى جرى استغلالها لصب صنوف العذاب والهوان على ابناء قرية بأكملها من قرى الغربية كانت تحمل اسم كشميش.

كانت القرية التعيسة قد شهدت حادث قتل عادى يتكرر كل يوم فى عشرات ومئات القرى الاخرى.

ولكن .. لان الدولة كلها وقتها كانت قد استدارت عن عودها الاساسى على الحدود وراحت تطارد ابناءها فى الداخل وتسمترئ اهانتهم وتحقيرهم واهالة التراب فوق جباههم وكأنهم اعداؤها الحقيقيون لان الدولة كلها بآلتها الامنية الجبارة كانت قد تفرغت تماما لكمشيش وغيرها فقد جرى استغلال الحادث العابر اياه للتمثيل بجثث ما تبقى من ابناء الاسر فى تلك القرية وفى مقدمتهم اسرة الفقى باعتبارها هى المسئولة عن سقوط ذلك القتيل الذى اشعل الفتيل.

ومهما قلنا ومهما ارهقنا انفسنا فى البحث والتنقيب فلن نقع على المفرادات التى تعبر بقوة وبصدق عما جرى كما عبرت محكمة الجنايات فى حيثياتها وهى حيثيات ترتعد لها الفرائص والابدان.

قالت المحكمة ان محكمة الجنايات تسجل للتاريخ ان الفترة التى جرت فيها احداث هذه القضية المثيرة هى اسوأ فترة مرت بها مصر طيلة تاريخها القديم و الحديث ففيها ذبحت الحريات و ديست كرامة الانسان المصرى وان المحكمة وهى تسجل هذه الفظائع ينتابها الاسى العميق والالم الشديد من كثرة ما اصاب الانسان المصرى فى هذه الحقبة من الزمان من اهدار لحريته وذبح لانسانيته وقتل لمقوماته كافة ورجولته وامنه وامانيه وعرضه.

واضافت المحكمة فى حيثياتها المنشورة فى حينها وان المحكمة تسجل للتاريخ ايضا وقلبها ينفطر ان ما حدث فى هذه القضية لم يحدث مثله فى شريعة الغاب ولا البربرية الاولى وان المباحث العسكرية الجنائية امرت الرجال بالتسمى باسماء النساء ووضعت ألجمة الخيل فى فم رب العائلة وكبير الاسرة ولطمت الرؤوس والوجوه فيها بالايدى وركلتها بالاقدام وهتكت اعراض الرجال امام بعضهم البعض وجئ بالنساء وهددوا بهتك اعراضهن على مرأى ومسمع منه ودربت الكلاب على وطء الرجال ويتم ذلك بالفعل على المتهم الاول وهدد رب العائلة واخوته باخراج جثة والدتهم وكان حديثة الدفن للتمثيل بها امام الناس والتشهير بهم وإذلالهم امام اهليهم.

تلك هى الحيثيات.

وتلك هى معانيها.

ولم تكن كمشيش حالة فريدة من نوعها فقط كانت بارزة وصارخة وفاضحة.

وفى الفترة من مايو 65 الى يونيو 67 كانت هناك اكثر من كمشيش حتى بدت النكسة نهاية طبيعية جدا ومنطقية جدا ومعقولة جدا لدولة من هذا النوع.

وكانت اسرة "بدوى" فى شرباص بفارسكور قد نالها حظها من الاذى ومن الضرر ومن المطاردة حتى ضاقت الارض بالدكتور بدوى بما اتسعت وبما رحبت.

وذات يوم ساله صديقه د. رشوان فهمى استاذ طب العيون بجامعة والاسكندرية.

ماذا ينبغى ان نعمل ؟

قال د. بدوى وكأنه يقرأ الغيب لا شئ دعهم يعبثون حتى ينهاورا من تلقاء انفسهم.

وكان رشوان فهمى قبلها قد مر هو الاخر بتجربة قاسية بدأت بخضوعه للحراسة بعد ساعة واحدة من كلمة بدرت منه فى نادى الجزيرة ولم يكن يقصدها عندما قال ان عميد قصر العينى لو اتيحت له امكانيات رئيس هيئة قناة السويس لكان قد جعل من قصر العينى نموذجا كاملا غير المستشفيات.

ولم يكن الدكتور فهمى وهو يبدى رأيه البرئ هذا لم يكن يدرى ان عبد الناصر كان قد قال قبلها ان قصر العينى لو  ادير كما ادار محمود يونس قناة السويس لما رأينا هذا الفساد فى القصر العينى.

وقد بلغ الامر بالدكتور فهمى بعد فرض الحراسة عليه وتنفيذ الامر فى الرابعة فجرا انه كان يمشى فى شوارع الاسكندرية وهو لا يكف عن اسراع الخطى والنظر الى الوراء والالتفات يمينا وشمالا اذ كانت دولة المخبرين قد اطلقت مخبريها يطاردونه فى كل طريق.

وكان نموذج رشوان فهمى مجرد "عينة" للجامعة وكيف صار العملاء فيها والجواسيس والوشاة وكتبة التقارير اضعاف الاستاذة واعضاء هيئة التدريس.

ولم تكن وسائل الإعلام اسعد حظا ولا اهدأ بالا فبعد زيارة خرشوف لمصر أوائل عام 64 انطلق الشيوعيون من مخابئهم يسيطرون على كل ناصية ويستقرون فوق كل منبر.

قال د. بدوى وقد كان قريبا مما يجرى فى الاهرام كان يشرف عليها محمد حسنين هيكل ومن حوله الشيوعيون من كل جانب محمد سيد احمد لويس عوض صلاح جاهين.. وغيرهم.

وفى اخبار اليوم جاءها محمود امين العالم رئيسا لمجلس الادارة بعد خالد محيى الدين.

وفى دار الهلال ظهر احمد بهاء الدين ويصفه د. بدوى بأنه شيوعى قح ولكنه يتلون بألوان مختلفة حسب الظروف.

وفى روزاليوسف تولاها عبد الرحمن الشرقاوى ويصفه د. بدوى بانه كان : متعدد الاطوار يدور بين اليمين واليسار ويجمع بين كاسكيت الشيوعيين وعمامة الإسلام.

وغيرهم .. وغيرهم ورغم ان د. بدوى يمضى فى مذكراته بوجه مكشوف لا يخجل من شئ ولا يستحى من احد ولا يجد حرجا فى ان يضع اصبعه فى عين اى كبير الا انى لا افهم لماذا اخفى الاسماء فى موضعين اثنين ثم اكتفى بالاشارة الى صاحبيها من بعيد.

فى الموضع الاول قال يصف حماقات عبد الناصر واندفاعاته الخرقاء والقائمة طويلة تستغرق عدة صفحات من القرارات والتصرفات التى اصدرها عبد الناصر باسم مصلحة الشعب تقضى بها على مقدرات هذا الشعب المسكين الذى كانت تساق غوغاؤه فى مظاهرات كاذبة مفتعلهة لتأييد هذه القرارات الشعبية كما كان حملة مباخر عبد الناصر يسودون صفحات جرائده الهزيلة لاحراق البخور حول هذه القرارت بصراحة.

والواضح من الكلمة الاخيرة ان المقصود هو محمد حسنين هيكل فلماذا اخفى د. بدوى اسمه ثم اشار اليه باكبر بنان لماذا لم يذكر اسمه صراحة ليرى الناس بصراحة ايضا حجم ما اصابهم من كتابات هذا الرجل.

واما الموضع الثانى ففيه يقول بدوى وقد زعم احد هؤلاء الكتاب انه كان فى غيبوبته طوال هذه المدة كلها وان كل ما كتبه من تمجيد ومديح لعبد الناصر وزبانيته ونال فى مقابل ذلك ارفع الاوسمة والنياشين والاموال الطائلة بوصفه عضوا فى مجلس ادارة الاهرام. ثم لما مضى عهد بطله هذا بوفاته اصابته عودة الوعى اى والله هكذا عنون كتيبا ظن انه يستطب\يع ان يوهم به الناس انه غير مسئول وانه لم يشارك فى ارتكاب مثل هذه البراءة الكاذبة او الصفاقة الوقحة. من يريد ان يوهم هذا الماكر الساذج ؟

ومرة اخرى فان الواضح كالشمس ان المقصود بهذه الكلمات هو توفيق الحكيم ولا ارى سببا واحدا يجعل الدكتور بدوى يتحدث عنه بهذا الوجهه المستعار.

وعلى كل حال فان توفيق الحكيم على الاقل قد تاب واناب واقر بخطاياه فى كتابه الشهير "عودة الوعى" وتلك شجاعة تحسب له اما الاخرون فلا يزالون مقيمين على ما نشأوا عليه من الاوهام والآثام ولا يزالون يخادعون ويخدعون وبصفاقة يكذبون.

الوفد 20/4/2000


الزيارة الأخيرة

عبد الرحمن بدوى يفتح قذائفه على جميع الجبهات

بدوى يزور القاهرة لآخر مرة من 27 عاما ليشكر السادات..فلا يطيق البقاء أكثر من شهرين !

لهذا السبب .. ينبح الشيوعيون فى وجه المطالبين بإلغاء نسبة العمال والفلاحين فى البرلمان.

توفيق الحكيم : عشت أسود أيامى فى باريس بعد النكسة وأحسست فى كل خطة بالخزى والمهانة والعار

من حق الدكتور عبد الرحمن بدوى فيلسوفنا المهاجر أو الهارب الى باريس الا يعود الينا مرة ارى فلا شئ لدينا فى الحقيقة يغريه بالعودة او حتى يغرينا نحن بالبقاء لقد لاذ الرجل بالفرار من هذا البلد قبل 33 عاما وتحديدا فى فبراير 67 عاقدا العزم يومها على ان تكون هجرته كما يسميها نهائية وان يكون هروبه-كما اسمية انا- بلا رجعة، وكأنه طلقه بائنة.

وكانت عنده ولاتزال المبررات الكافية التى تجعل موقفه هو عين العقل وعين الصواب معا فما الذى يبقيه فى أرض يشيع فيها الفساد كما يشيع الفزع بين الناس فى زمن الفتنه.

وحين تداركت الدولة خطيئتها معه فمنحته أعلى جوائزها قبل نحو عام فإن ذلك لم يهز شهره واحدة فى رأسه إذ لم يعد يعنيه فى شئ وهو الذى بلغ الثالثة والثمانين من عمره ان تشعى إليه جوائز الدولة او لا تسعى فهى فى النهاية التى تكتسب قيمة به وتلعو وليس العكس فلقد خرج من بلاده مطاردا مطرودا وكأنه متهم تلاحقه يد العدالة.

وليست الجائزة التى منحوه إياها على استحياء إلا طوق نجاه ألقوه لغريق بلغ الشاطئ.

فى مذكراته التى صدرت فى مجلدين كبيرين بعنوان سيرة حياتى يبدو الرجل ومعه الحق لكنه ساخطا غاضبا كافرا بكل قيمة فى هذا الوطن اللهم الا قيمة الايمان التى يستعصم بها ويتأبى على السقوط والخضوع.

ولعل الذين طالعوا حواره مع الشاعر الكبير فاروق جويدة فى الاهرام يوم الاحد الماضى يدركون اسباب السخط ومقتضيات الغضب عندما راح يعدد دواعى خروجه ويحصيها وكيف انه لم يكن ليطيق العيش فى بلد شاع الفساد فى اركانه وانشب اظافره فيه فساد فى السياسة وفساد فى الثقافة وفساد فى الجامعة وفساد -وهذا هو الاخطر- فى اخلاق الناس.

ومن الواضح ان شاعرنا الكبير قد حجب الكثير من كلماته التى جاءت مثل حد السكين وهى لا تبالى بأى الرقاب تطيح.

وعندما سأله -مثلا -عن العقاد وتوفيق الحكيم ود. فؤاد زكريا ود. حسن حنفى ود. زكى نجيب محمود لم يستطع جويدة ان يضع رأيه فى أصحاب هذه الأسماء وغيرها على الورق فاحتفظ بالإجابة لنفسه.

ورغم ان الجلسة بينهما فى باريس قد دامت ثلاث ساعات كاملة الا ان المناسب منها للنشر فيما يبدو كان قليلا وقليلا جدا.

وعندما سئل عن رأيه فى تلاميذه الذين يضيئون الحياة الثقافية فى مصر قال وهو يكظم غيظه انهم اسوأ من عرفت واسوأ من رأيت.

ولم يكن متجنيا ولا ظالما ولا حتى مبالغا وهو يقر فى الحوار بأنه قد تخلى عن موقفه المؤيد لثورة يوليو فى بداياتها عندما اكتشف موقفها الواضح من الديمقراطية وعند تبين له ان تلك الثورة كانت هى بداية الكوارث التى لحقت بمصر على شتى الاصعدة يكفى الثورة المباركة انها قد شوهت الانسان المصرى وفتحت الباب للافاقين والانتهازيين وكتبة التقارير وعملاء الامن كى يحكموا و يتحكموا.

ان الرجل ممرور ممرور ويتمنى -كما قال شاعرنا الكبير الراحل صلاح عبد الصبور -ان يلتف على عنقه احد الحبلين حبل الصدق او حبل الصمت وقد اختار الاول بلا ادنى درجة من التردد او التفكير.

والشئ الذى يدعو الى الحسرة والأم والحزن انه لا يستشعر الغربة من فرنسا حيث يقيم منذ اكثر من ربع قرن وان الغربة الحقيقية قد ذاق ويلاتها يوم كان فى مصر ويوم كان على ارض وطنه بين اهله وزملائه وتلاميذه واصدقائه وقد احسست ان شاعرنا جويدة قد تكأ جرحا لدى الدكتور بدوى تؤلمه ذكراه ويتمنى ان ينساه.

ولا اريد ان تستغرقنى الاشارة الى حديثه الموجوع مع شاعرنا عن سيرته التى بين يدينا.

فعلى طول المذكرات الممتدة 750 صفحة والتى اتعرض لها اليوم لرابع مرة يظل جرحه متجددا نازفا موجعا حتى وهو يصف لنا رحلاته فى سويسرا وهولندا وامريكا وايران وغيرها.

والشيوعيون الاجلاف الذين اخرجوه من وطنه لا يعجبهم ان يأتى حديثه على هذا القدر من المصارحة ولا على هذه الدرجة من المكاشفة.

ولا بد انهم كانوا يتوقعون منه ان يسكت فى منفاه الاختيارى والاجبارى معا وان يطوى اوراقه ولسانه ويصمت وان ينام على جراحه هناك او يداويها.

والحقيقة ان الرجل قد ثأر لنفسه ولنا على احسن ما يكون الثأر والانتقام اذ لا يجدى مع هؤلاء الشيوعيين الذين استباحوا هذا البلد منذ جاء رسولهم خرشوف الى مصر عام 64 ولسنوات طويلة لا يجدى معهم الا الضرب على الأقفية كما فعل هو ازاءهم فجردهم من ثيابهم وتركهم عرايا فى اوسع ميداين.

ولو عاش الرجل بيننا لكانوا قد قضوا عليه تماما كما قضوا على كل شئ جميل عندما تمكنوا من مقاليد الامور ولكن الله كان قد كتب له النجاة من تلك الفئة الباغية.

وتجاربه معهم ومع الجواسيس والمخبرين لم تكن هيئة ولا معقولة ولا مقبولة.

مثلا .. مثلا

لقد رشحه الدكتور ثروت عكاشة عندما تولى وزارة الثقافة عام 66 ليكون وكيلا للوزارة معه وبسرعة تحركوا ونشطوا وقطعوا الطريق على الدكتور ثروت ومارسوا عليه اشد الضغوط حتى احس د. بدوى بان قبوله للموقع سيسبب حرجا للوزير فاعتذر شاكرا للدكتور عكاشة مقدرا رغبته الصادقة فى العرض وفى التعاون وفى خدمة الوطن.

وعندما رشحت الجامعات المصرية 19 استاذا لجامعة باريس وتراه جديرا بالتدريس بها ردت الجامعة 18 استاذا الا د. بدوى الذى طلبته بالاسم والحت فى الطلب عليه.

ولم تكن هذه هى المفاجأة وانما كانت المفاجأة الحقيقية عندما طلب وزير التعليم العالى وقتها من جامعة باريس ان تراجع نفسها وان تختار استاذا اخر غير الدكتور بدوى.

وازدادت الجامعة اصرارا عليه فخرج كما خرج موسى عليه السلام من قبل من مصر خائفا يترقب.

وعندما عرف بمسلك وزير التعليم العالى هتف من قلبه وهو على سلم ينهش النفوس فى مصر.

ولم تمض شهور هناك حتى كانت الهزيمة تمرغ انف مصر فى التراب بفضل زعيمها الملهم الذى انشغل عن اعدائنا على الحدود بالتجسس على رعاياه وتعذيبهم واهانتهم وتحويل مصر الى سجن كبير لم يكن مسموحا بالخروج منه الا للسجانين.

وعندما حلت الهزيمة بمصر كان الدكتور بدوى فى باريس ومن هناك كتب يصف ويقول لا تسلنى عما انتابنى طوال الايام الستة للحرب والاشهر التى تلتها من شعور بالخزى والعار والذل.

اما من يعرفوننى ها هنا من الفرنسيين. لقد كانت نظراتهم وبوادرهم وكلماتهم سهاما مسمومة وكان صوتى حين احدثهم خفيضا ذليلا ينم على المهانة والخزى والعار.

ثم يقول كان الالم يعترينى الى اقصى درجة لان مصر هى وطنى الاعز وليس وطن اولئك الافاقين والدجالين والطغاة والمهازيل الذين جروا عليها تلك الهزيمة النكراء ان هؤلاء ما هم الا عصابة من قطاع الطرق واللصوص الذين نهبوا ما نهبوا وتسلطوا ما تسلطوا فماذا يهمهم من مصير فريستهم مصر ان حل بها ما حل ومتى شعر اللص باى اسف اذا اصاب المتاع الذى تمتع به بعد ذلك اى مصاب فما بالك والضحية المسكينة تطلب من اللص الاستمرار فى سرقتها ونهبها واذلالها.

والدكتور بدوى يشير فى هذا السطر الاخير الى الذين رقصوا فى البرلمان يومها فرحة وسرورا بتراجع الزعيم الملهم عن قرار تنحية ولقد كانت تمثيلية التنحى فضيحة لا تزال من المآثر التى تروى الى اليوم فالراقصون فى مجلس الامة يرقصون بينما اسرائيل تصوب بنادقها على الضفة الاخرى من القناة والحشود القادمة من المحافظات بتدبير المأسوف عليه الاتحاد الاشتراكى تهتف بحماس فى الوقت الذى لم يكن دم جنودنا وضباطنا قد جف بعد على رمال سيناء ولا اعرف ان كان الدكتور بدوى قد قرا مذكرات صلاح نصر الذى اقر فيما كتب بأن بعض الحشود القادمة من المحافظات لرفض التنحى قد وصلت قبل اعلان القرار من عبد الناصر فاضطرت للبقاء على مشارف القاهرة حتى يعلن هو القرار فيهتفوا.

وحين يتعرض الدكتور بدوى لحكاية الراقصين فى مجلس الامة هؤلاء يخمن انهم جميعا كانوا من نواب الخمسين فى المائة اى العمال والفلاحين. ثم يقول وهذا يفسر بعض الاسباب التى ادت الى وضع هذا النص الشاذ الغريب فى قانون الانتخابات فى مصر واليساريون الذين لا يزالون حتى اليوم يهبون او يعوون وينبحون فى وجه كل من يطالب بالغاء هذا النص الشائن انما هم منافقون يريدون  ان يتملقوا مشاعر غوغائية رخيصة.

ولم يكن فى طاقته ان يبقى فى باريس بعد الهزيمة التى لم تعرف مصر لها مثيلا فى تاريخها الطويل فخرج منها الى ليبيا استاذا بكلية الآداب بجامعة بنغازى فى طرابلس ثم رئيسا لقسم الفلسفة بها.

ولم يكن حظه هناك سعيدا اذ وجد نفسه قيد الاعتقال او الاحتجاز كما يسمونه هناك بعد ان قامت ثورة الفاتح من سبتمبر ورأت فى افكاره التى يسقيها للطلاب عن الحرية والديمقراطية والكرامة عدوا لها فمكث فى معتقله 17 يوما.

وكان الفضل الاول فى فك قيده واطلاق سراحه للرئيس الراحل انور السادات الذى بعث مستشاره اشرف مروان الى ليبيا برسالة تقول ان اطلاق سراح الدكتور بدوى مسألة تهم السادات شخصيا.

وقد كان السادات منذ شبابه قارئا جيدا لكتب الدكتور بدوى وعارفا بقدره وقيمته ومقرا بحجمه ومكانته كأستاذ تتهافت الجامعات على ان يكون واحدا من اعضاء هيئات تدريسها.

ولم يكن فيلسوفنا يعرف فى ذلك الوقت ان ابن الرجل الذى توسط للافراج عنه اى اشرف مروان سوف يكون فيما بعد زوجا لحفيدة شقيقه هانيا عمرو موسى.

بعدها عاد الرجل الى مصر وكان ذلك فى مايو 73 وتوجه فور وصوله الى قصر عابدين ليسجل شكره الكبير للزعيم الراحل انور السادات ولم يك ليعود لولا هذا السبب الوجيه.

وكانت تلك هى زيارته الاولى والاخيرة لمصر وهى زيارة دامت شهرين وكان ينوى أن يقيم لولا انه صادف أجواء لا تشجع على إقامة ولا تغرى بطول بقاء.

صحيح انه قد عاد إلى مصر بعد تلك الزيارة مرتين لعلاج عينيه ولكنهما كانتا مثل إقامة الضيف الذى لا يطيل.

وعندما فكر مجرد التفكير فى أن يعود إلى جامعته عام 73 اكتشف ان الجامعة قد فصلته مثل اى طالب فاشل أهمل واجباته ولا يجوز له أن يبقى فيها ولو ليوم واحد. حتى ولو كان هذا الطالب الفاشل هو عبد الرحمن بدوى.

وكان مدير الجامعة هو الدكتور إسماعيل غانم الذى كان فى تقدير د. بدوى يتولى كتابة التقارير ضد أعضاء هيئة التدريس ورجال الإدارة وكان رئيسا للجهاز السرى الخاص بالجامعة وقد كوفئ على اعماله الخسيسة ضد زملائه بتعيينه وزيرا للثقافة ومديرا للجامعة.

وخلال شهرين عاشهما د. بدوى فى القاهرة لم تقع عيناه فى كل ركن الا على التخريب الذى ألحقه الشيوعين بكل شئ وبكل قيمة جميلة فى مصر.

وقرر ان يعود وان يسارع فى عودته ولا يتباطأ وليس صحيحا انه قد أهال التراب على كل شئ فى مصر وعلى رأس كل احد من هذه الاصنام السياسية والثقافية التى تجثم فوق انفاسنا ولا تريد ان تفارق

ليس صحيحا لانه قد انتقى الاشخاص واختار الاشياء ثم انحاز واشار الى بعض الذين نراهم عمالقة فرآهم هو اقزاما لا يساوى الواحد منهم شراك نعل فى احسن الحالات.

وليس ذنبه ان آراءه لم تصادف هوى فى نفوسنا انما هو ذنبنا نحن الذين شببنا على "خشب مسنده" ونريد ان نموت عليها فإذا جاء واحد مثله وامتلك شجاعة خاصة شجاعة لا تضع حسابا لفلان ولا اعتبار لعلان فهو من الآبقين الخارجين على السرب وعلى القيطيع وهو ما لا يجوز فى اعرافنا البالية.

والغريب والمدهش حقا ان آراءه المعلنة فى مذكراته او اغلبها على الاقل ليس جديدا لقد اعلنها فى اكثر من مناسبة وفى اكثر من مكان وقد سمعت منه بنفسى آراءه فى العقاد مثلا ونشرتها فى الوفد فى يناير 93 بعد لقاء معه فى مقهى على شاطئ نهر السين بباريس فى ديسمبر عام 92.

وقد عرفت بعدها ان تلك الآراء قد أثارت ضده وقتها بعض الدروايش فحجبوا عنه احدى جوائز الدولة التى كانوا ينون منحها له فى ذلك العام ولم يكونوا يعرفون وربما الى اليوم انه لا يهمه فى كثير او قليل ان تذهب اليه جائزة او تجئ.

ويبدو اننا مغرمون وشغوفون بثقافة الغرف المغلفة اى الثقافة التى تقول شيئا فى جلساتها الخاصة ثم تعلن غيره اذا كانت الجلسة فى الهواء الطلق وكان الحديث امام الكاميرات وتحت الاضواء.

ومن سوء حظنا ان الرجل لا يعرف شيئا عن هذا الفصام وانه لا يفضل الالوان الرمادية ولا يحب الحلول والوسط ولا يمنعه حياؤه بالتالى من ان يضع اصبعه فى عين اى كبير اذا كان هنا الكبير فى نظره صغيرا وهو حقه الذى لا ينكره عليه اى منطق متسق.

اننى اتخيله فى غرفته بفندقه المفضل فى عاصمة النور وهو يردد مع الشاعر القديم :

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش

ثمانين حولا لا ابالك يسأم

فالشاعر القديم يرى -ومع كثير من الحق -ان الانسان اذا تجاوز الثمانين فان الحياة بالنسبة له تصير من الاشياء التى تبعث على الملل.

ولم يعيش شاعرنا القديم ولا جاء الينا فيلسوفنا الحديث ليرى كل واحد منهما ان المصرى لم يعد -اليوم -فى حاجة الى ان يعيش ثمانين عاما ولا حتى اربعين ليكره حياته ويسأمها انه بما يرى وبما يعيشه ويعايشه يسأم من اعبائها وتكاليفها وهو دون العشرين.

الوفد 27/4/2000


عبد الرحمن بدوى يفتح قذائفه على جميع الجبهات

لا يكتبون ويؤذيهم أن يكتب الآخرون

هل قرأ الغاضبون مذكرات "بدوى" قبل إعلان سخطهم عليه ؟!

الجهل والعقم صفتان غالبتان فى معظم الذين فازوا بالتقديرية منذ نشأتها !

تعجبنى عبارة لعميد الادب العربى الدكتور طه حسين كان قد جعلها فى صدر واحد من مؤلفاته على سبيل الاهداء فقال الى الذين لا يعملون ويؤذيهم ان يعمل الآخرون.

ولا اعرف لماذا طافت هذه العبارة بخاطرى وانا استعرض اراء الذين لم يعجبهم شئ مما سجله الدكتور عبد الرحمن بدوى فى سيرته الذاتية التى صدرت مؤخرا بعنوان "سيرة حياتى".

لا اعرف لماذا طافت بخاطرى ولا اعرف ايضا لما رايتها مناسبة جدا اذا اهديناها اليهم مع بعض من التعديل فيها بحيث تكون هكذا الى الذين لا يكتبون ولا يحبون او يكرهون ان يكتب الاخرون.

ذلك ان اراء الرجل وكلها على درجة كبرى من المواجهة والمبادأة لم تعجبهم لا لانهم يختلفون معها وانما لانها لم تات لهم على هوى او انها -اى تلك الآراء -قد حطمت اصناما يعبدونها ويريدون ان يقيموا على عبادتها الى يوم القيامة ولا يريدون ان يتحولوا عنها مهما كان الثمن ومهما كان حجم الاغراء

ومن الواضح جدا ان البقاء فى الظلام يكون احيانا اكثر امانا وراحة بكثير من الخروج فى النور.

ليس معنى هذا بالطبع اننى اتفق معه فى كل آرائه بالعكس اننى اختلف فى كثير منها وأراه ظالما فى بعضها ومبالغا فى بعضها الاخر ومتعسفا فى بعضها الثالث الى اخره.

ولكن فى المقابل ارى انه من حقه ان يقول ما يشاء فيمن يرى من الناس وفيما عاشه من الاحداث ومن الواجب ان نسمعه والا نصادر له على رأى ولا نسفه له رؤية.

اننا نذكر هنا موقف الفيلسوف الفرنسى الاشهر فولتير الذى وقف بجوار جان جاك روسو عندما طاردته السلطات السويسرية فى وقت من الاوقات واصدرت تعليماتها باحراق احد كتبه يومها قال فولتير انا لا اتفق معك فى كلمة واحدة مما قلته ولكنى سأدافع عن حقك فى الكلام وحرية التعبير عن افكارك حتى الموت.

ولم يكن فولتير فى مبدئه هذا يقصد روسو على وجه الخصوص وانما كان يضع قاعدة عامة ينبغى ان تكون هى الطريق فى الكلام وفى الكتابة معا للقادمين من بعده الى يوم القيامة.

وليس عجيبا بالتالى ان يقول فولتير حين جاءه الموت : اموت على عبادة الله ومحبة اصدقائى وكراهية اعدائى ومقتى للأساطير والخرافات الدخيلة على الدين.

وعندما اشرف على الموت وتيقن من نهايته اوصى بان يكتبوا على قبره ثلاث كلمات فقط وهى : هنا يرقد فولتير المهم

الاستاذ محمود السعدنى مثلا قد اغضبه جدا ان يصف الدكتور بدوى احمد بهاء الدين بانه كان شيوعيا قحا يتلون بألوان مختلفة حسب الظروف وعبد الرحمن الشرقاوى بانه كان متعدد الاطوار يدور بين اليمين واليسار ويجمع بين عمامة الاسلام وكاسكيت الشيوعيين.

لم يعجب هذا الكلام كاتبنا الكبير محمود السعدنى وانبرى يهاجم الرجل فى مقالته بجريدة "القاهرة" ويتمنى الا يعود مرة اخرى الى مصر التى غادرها نهائيا الى باريس من 23 عاما ما دامت هذه هى اراءه فى بهاء الشرقاوى وآخرين.

والحقيقة انى لا ارى مبررا واحدا لغضب السعدنى ولا لهجومه تماما كما لا اجد سببا معقولا واحدا يجعل هؤلاء الذين سلكوا مسلك السعدنى يفتحون قذائفهم على الدكتور بدوى بلا سابق انذار.

اننى قد اكون اكثر اعجابا بالراحل الكبير بهاء الدين من السعدى نفسه بل ان اعجابى به يقوم فى الغالب على العقل واعجاب السعدنى به يستند ويرجع فى الغالب ايضا الى عاطفة تزيح العقل جانبا ولا تستجيب لاحكامه ومع ذلك فليس عندى مانع من ان يصفه الدكتور بدوى بما وصفه به وان يزيد على ذلك فيرميه بشتى النعوت والاوصاف.

واذا كنا جميعا سوف نرى بهاء الدين كما يجب ان يراه السعدنى فلا يشذ واحد برأى مختلف فان هذا فى النهاية ينال من بهاء وغيره. ولا يضيف اليهم فى شئ.

فقيمه مذكرات الدكتور بدوى فى تقديرى ليست فى مساحتها وحجمها ولا فى المساحة الزمنية الممتدة قرابة القرن التى تعرضت لها ولا حتى فى قامة صاحبها ومكانته التى يحتلها لدى الذين يعرفون قدره ويقدرون جهاده وكفاحه الطويل من اجل العلم والعلم وحده.

قيمة المذكرات ليست فى شئ من هذا رغم وجاهة كل هذه الاسباب التى يصلح كل واحد منها لان يمنح سيرة الرجل قيمة ضخمة.

انما قيمتها الحقيقية فى انها قد جاءت بعفوية وتلقائية لا عن قصد أو عمد بشئ مختلف عما اعتاد الناس على اجتراره كل صباح كما نجتر الكثير من اشيائنا القديمة.

والشئ المختلف فى العادة يثير الجدل ويفتح ابوابا للنقاش والحوار كانت قبله موصدة ومقفولة ومن شأن هذا بكل المعايير ان يكون مفيدا وان يكون صحيا وان يكون مضيفا.

ان للرجل مثلا -رأيا فى علاقة المصريين بالجنائز وفى تشييعهم لموتاهم وهو رأى كما سوف نرى لا يخلو من منطق ولا ينأى كثيرا عن الواقع.

انه يرى أن الشعب المصرى شعب مولع بالسير فى الجنازات منذ فجر التاريخ ولا يزال حتى اليوم يحتفل كثيرا للاشتراك فى الجنازات على نحو لا يعرف د. بدوى مثيلا فى اى بلد عربى او اسلامى آخر ناهيك عن اى بلد اوروبى.

يقول : لا اعرف شعبا تفنن فى طقوس الحداد على الموتى مثل الشعب المصرى جنازة سوداء للرجال ومثلها للنساء وزيارة النساء للقبر فى كل خميس يتلو يوم الوفاة حتى اكتمال اربعين يوما وربما اكثر ومأتم يستمر ثلاثة ايام ومأتم اخر فى يوم الاربعين ومأتم سنوى يستمر اعواما متوالية حسب مكانة المتوفى والمقدرة المالية لورثته وقد يتجاوز ذلك العشر سنوات وهكذا.

والدكتور بدوى على حق تماما فيما يقول حول هذه النقطة واما تفسير ذلك وهو ما لم يتطرق اليه فيمكن التماسه فى تاريخنا الفرعونى اذ يتضح للذى يقرا هذا التاريخ ان كل هذه الطقوس التى يصفها د. بدوى وغيرها الكثير تعود الى عادات فرعونية اصيلة ومنها ما هو موجود الى اليوم بلا ادنى تغيير او تبديل عما كان عليه قبل الاف السنين وربما هذا هو سر عجب د. بدوى من انه لم ير مثيلا لهذه الطقوس عند غيرنا من الشعوب حتى اولئك الذين يشاركوننا اللغة او الدين.

اما الجديد الذى لا علاقة له بتاريخ فرعونى ولا بغيره فى حكاية الجنائز هذه فهو ان احتشاد الآلاف لتشييع جنازة فلان او علان من الناس ليس معناه انهم محزونون على فراقه ولا انهم يبكونه بالدمع السخين.

انما هى مجرد فرصة للاجتماع لتبادل الرأى وربما النكات حول كل شئ واى شئ الا ان يكون ذلك له ادنى علاقة بالميت الذى يشيعونه الى مثواه الاخير.

وبالمناسبة فان للدكتور عمرو عبد السميع رواية بديعة عنوانها "كفاحى صفحات من سيرة المناضل المتقاعد طلبه هريدى" استطاع من خلالها ان يعبر اصدق تعبير وان يصور أدق التصوير لقاء المشيعين فى جامع عمر مكرم ثم راح يعدد فى فصل عنوانه "سعيكم مشكور" الفوائد الجمة التى يحصدها أولئك المشيعون عندما يتوافدون على الجامع ويتظاهرون بأنهم يؤدون واجب العزاء بينما هم طوال الجلسة يتبادلون أخر الأخبار والآراء وربما اتفق بعضهم على ابرام صفقات

وعند الدكتور بدوى واقعة محددة ، يرويها مدللا بها على صدق كلامه ويقول اذكر اننى حضرت تشييع جنازة استاذى العظيم مصطفى عبد الرازق باشا وكان عند وفاته شيخا للازهر فتصدر موكب الجنازة صفوف متراصة متوالية من شيوخ الازهر.

ومضت الجنازة من جامع الازهر وسارت فى الدرب الاحمر ثم اصاعدت فى شارع صلاح الدين "القلعة" ثم مضت يمينا على مقابر الامام الشافعى حيث وورى التراب وقدر لى ان اسمتع الى احاديث كبار شيوخ الازهر السائرين فى المقدمة فوجدتها جميعا تدور حول موضوع واحدا هو من سيخلفه شيخا للأزهر.

وانطلقت الترشيحات والترشيحات المضادة فى غير استحياء ولا احترام لمهابة الجنازة واعرف من بين هؤلاء الشيوخ من كانوا بالأمس فقط فى جلسة المجلس الاعلى للازهر يتطاولون على الشيخ مصطفى بعنف وسفالة منقطعى النظير.

واى متدبر لما يجرى فى الجنائز والمآتم سوف يتبين ان الدكتور بدوى لا يبالغ فى وصف تلك "الفرجة" بضم الفاء التى نسميها جنازة او مأتما والتى يمضون فيها وهم يتصنعون الحزن ويتكلفون الاسى.

واخشى ان اقول انها قد تحولت فى السنوات الاخيرة الى مايشبه عروض الازياء وحفلات البذخ التى تهدف الى اظهار مدى ثراء اصحابها اكثر من الرغبة فى اداء الواجب او الهدف الحقيقى من ورائها.

وبعد هذا يأتى الاستاذ السعدنى ويقول ان آراء د. بدوى تدل على انه لا يعرف مصر ولم يعش فى مصر وانه لم يتعرف على المصريين كما ينبغى.

ولا اعرف ان كان السعدنى قد قرأ المذكرات حقا ام انه قد خطف بعض العناوين من هنا وهناك وهو يجرى ثم جلس يعلق على المذكرات التى قرأها وهو مطمئن.

ان الذى يطالع حكاية د. بدوى مع آداب القاهرة وانتقاله منها استاذا الى جامعة عين شمس بعد تأسيسها عام 1950 على يد طه حسين سوف يعرف جيدا ان كان د. بدوى لا يعرف مصر ولم يعش فيها ولم يتعرف على المصريين ام انه قد اصطلى بنارهم وتقلب عليها فى آداب القاهرة ففر منها بعد ان تحولت الى عش الافاعى وموئل للمنافقين ومرتع خصب للجهال والدساسين فاذا به كالمستجير من النار بالرمضاء.

ثم ماذا ننتظر من رجل مثله يصدر قرار من مجلس كلية آداب عين شمس فى يناير 57 بترقيته الى استاذ كرسى فيتعطل القرار، عن عمد فى مجلس الجامعة لا لشئ الا لان وكيل الجامعة كان من الد اعداء الدكتور بدوى وكان فوق عدواته له من الذين لا يعملون ويؤذيهم ان يعمل الآخرون.

وماذا ننتظر من رجل قد انتج 120 كتابا واجاد اكثر من ست لغات اجادة كاملة تسابقت الجامعات فى باريس وطهران والكويت وليبيا وغيرها الى الفوز به استاذا بها ماذا ننتظر منه اذا كان بلده الذى نشأ فيه وترقى فى جامعاته الى درجة الاستاذ لم يذكره بواحدة من جوائزه الا بعد ان تخطى الثمانين من عمره والا بعد ان صار على الشاطئ الاخر من الحياة .

هل يكون ملوما بعد ذلك اذا قال ان المعهود فى مصر هو العبث بكل قيمة واهدار كل حق فى غيبة صاحبه وهو العبث الذى نراه مهيمنا منذ عشرات السنين فى امر جوائز الدولة التقديرية وتولى المناصب العاليا، واقتسام العضوية فى الهيئات العلمية مما اهدر قيمة كل جائزة او عضوية وجعل من العار على صاحب الفضل ان ينالها وما على المرء الا ان يتصفح اسماء الذين حصلوا على جائزة الدولة التقديرية فى مصر منذ عام 1965 حتى اليوم ليتبين انهم اقل من كثير غيرهم استحقاقا لهذه الجائزة وان معظمهم لم ينتجوا شيئا يذكر بل كان العقم والجهل معا هما الصفتين الغالبتين عليهم.

والدكتور بدوى اذكى من ان يعمم فى كلامه عن الجائزة ولذلك فهو يرمى معظم الذين نالوها بالجهل والعقم واتهامه للأسف صحيح وقد ردده قبله كثيرون على مدى السنوات الماضية لولا ان د. بدوى كعادته اكثر صراحة وقوة.

وربما حدة فى التعبير عن المعنى اننى اعرف اثنين ممن نالوا التقديرية خلال الثلاث او الاربع سنوات الماضية عن طريق الالحاح والالحاح ثم الضغط المتواصل والطلب المباشر دون ادنى حياء او استحياء

وقد كان كل واحد منهما يبدأ خطته فى الالحاح الإعلامى والملاحقة التليفونية لبعض اعضاء لجنة الجائزة ممن يعرفهم قبل الترشيح بشهر على الاقل وقد ظل احدهما يمارس هذا السلوك الشائن على الملأ وامام الجميع حتى نالها فى النهاية وكان الذين منحوه اياها قد ارادوا ان يرفعوا عن انفسهم عبئا صار ثقيلا ومزعجا بمرور السنين وحرجا لم يعد محتملا.

فهل اذا جاء الدكتور بدوى بعد ذلك ووصف معظمهم بالجهل والعقم يكون متجنيا او مفارقا للحقيقة او غير عارف بمصر والمصريين.

وهل تظل الدولة التى ترضى بان تهبط الجائزة المقترنة باسمها الى هذا الدرك من التدنى فى نظر د. بدوى على الاقل ارضا يطيب له فيها مقام او منام ؟

بل ان اللافت للنظر ان جوائز الدولة التقديرية على وجة الخصوص لا تذهب لمستحقيها الا اذا كانوا ممن يعانون سكرات الموت بحيث تفقد معناها بالنسبة لهم تماما وتصير بحق كما وصف برنارد شو جائزة نوبل عندما منحوه اياها وهو فى خريف العمر بانها مثل طوق نجاة ألقوه لغريق بلغ الشاطئ.

حدث هذا مع العبقرى الراحل يوسف ادريس ومن قبله كان قد وقع الامر نفسه مع د. لويس عوض.

وقد كتب الله للدكتور بدوى ان يكون شاهدا على واقعة من وقائع النفاق الكبرى فيما يتصل بالجوائز عندما كان عضوا فى لجنة الفلسفة بالمجلس الاعلى للفنون والآداب فلما اجتمعت اللجنة فى الستينات لترشيح من تراه لجائزة الدولة فى العلوم الاجتماعية فاذا بواحد من اعضاء اللجنة د. محمد ثابت الفندى يرشح عبد الناصر للجائزة لانه صاحب الميثاق الوطنى.

ولما نجح د. بدوى فى التصدى لنفاق الرجل وابطل حججه المفضوحة والمكشوفة فى ترشيح رئيس الجمهورية لجائزة ليس لمن يشغل موقع الرئيس ادنى علاقة بها لما فعل ذلك د. بدوى قال ولم يكن قصدى طبعا الدفاع عن مقام رئيس الجمهورية بل ضرب النفاق بأنجح سلاح.

بعد كل هذا يريدونه ان يبقى فيها واذا خرج منها وهو يروم النجاة ثم ابدى رأيه فانهم يريدونه ألا يعود.

والحقيقة انه قد عقد العزم منذ البداية اقتناعا منه لا استجابة لرغبتهم عقد العزم على الا يعود فالذى رآه وعاناه هنا كان كافيا لان يجعله على يقين بأن سائر ارض الله دون هذه الارض واسعة.

الوفد 4/5/2000


عبد الرحمن بدوى يفتح قذائفه على جميع الجبهات

الحلقة الأخيرة

الموت .. للحاقدين

بدوى ينصح القارئ بأن يمتلئ ثقة بنفسه .. واحتقارا للحاسدين !

يتساءل كيف أبقى فى بلد ينهش الحقد الأزرق نفوس مواطنيه ؟

أغنيات فايزة وشادية وصباح خالية من أى معنى !

لماذا لم يكتب بدوى حرفا واحدا عن فترة إقامته بالكويت ؟

والان ما الذى سيبقى من اوراق الدكتور عبد الرحمن بدوى التى صدرت قبل شهرين تقريبا واثارت ولا تزال تثير منذ صدورها اصداء واسعة.

هل يبقى منها مثلا ان صاحبها قد قرر ان يقول فلا يخاف على اساس ان الذى يخاف فى العادة لا يقول ؟!

وهل يبقى منها ان كلمة الحق التى جاءت فيها من وجهة نظر صاحبها لم تترك له صديقا ولا حبيبا ؟

ثم هل اخطأ الرجل عندما رأى الا يكون مجاملا والا يكون منافقا جبانا يبدى غير ما يخفى ويضع على الورق شيئا يخالف ما يجده فى صدره وبالإجمالى ان يكون صريحا لا يتردد فى إبداء رأية الحقيقى حتى ولو ادى هذا الرأى إلى إغتصاب الجميع وهو ما حدث.

لقد مر الرجل بتجارب قاسية، منذ مولده فى 1917 وحتى خروجه من مصر نهائيا عام 67.. وهى تجارب علمته ان يحترس وان يمضى فى حياته كلها فيما بعد وفق قاعدة لا يميل عنها ابدا وهى "امتلئ ثقة بنفسك وازدراء للحاقدين".

وهى ثقة تحسها وتستشعرها وتجدها مجسدة تجرى مع كل حرف من حروف الكتاب.

لست مع الذين يقولون ان الدكتور بدوى لا يعجبه شئ ولا يملأ عينه احد فى وطنه وان نظراته كانت على طول المذكرات سوداوية تشاؤمية قاتمة لا ترى حلا ولا عملا ولا املا.

لقد قال كلاما جميلا فى استاذه الشيخ مصطفى عبد الرزاق، وقال كلاما اجمل منه واشبه بالشعر فى طه حسين استاذه ايضا والمشرف على رسالتيه : الماجستير ثم الدكتوراه.

وكان فى وقت من الاوقات عضوا فى حركة "مصر الفتاة" السياسية ظل فيها لفترة بعد ان حولت الى "حزب وطنى اسلامى" على يد احمد حسين.

وفى وقت اخر كان عضوا فى الحزب الوطنى القديم ومتحمسا لافكاره، كل هذا كان قبل ثورة يوليو التى وصفها بانها كانت اكبر كارثة على مصر منذ الفتح العثمانى، اى من عام 1517.

وهو لم يصدر هذا الحكم عليها بغير مبررات يراها او براهين يقبض عليها بيديه بالعكس لقد كان واحدا من انصارها حتى عام 58 وكان عضوا فى لجنة الدستور التى شكلتها الثورة فى يناير 53 لوضع دستور جديد ثم عضوا فى لجنة الحقوق والواجبات ايضا.

ولكن يوليو فى رأية قد خلقت جوا خانقا مسموما مميتا، ليس فيه غير الحقد الازرق الذى ينهش النفوس وقد عانى منه بنفسه طويلا.

وهل هناك ادل على هذا الحقد ولا اصدق تعبيرات عنه من ان يسعى وزير التعليم العالى عام 67، بكل نفوذه كوزير لالغاء ترشيحة -اى د. بدوى- من جانب جامعة باريس للتدريس بها .. لا لشئ الا لان ذلك الوزير التعيس لم يكن يحب لبدوى ولا لغيره ان يغادر القاهرة لا الى باريس ولا الى غيرها من البلاد.

وليس صحيحا بالمرة ان موقفه من ثورة يوليو راجع الى استيلائها على املاكه واملاك اسرته من الاراضى الزراعية.

لقد ظل مؤيدا لها مدافعا عنها رغم استلائها على 25 فدانا من ارضه وعدم تعويضه بمليم واحد الى اليوم.

ولكنه فى 67 قد ادرك مباشرة، ان التهييج والتهريج وحده هو الذى يحكم ويسيطر وانه لا امل فى شئ اذا سارت الامور عندنا على ما مضت عليه فى الطريق منذ 52 الى 67 وان ما وقع فى هذا العام هو بالمنطق الذى تعلمه و تخصص فيه النتائج التى تترتب على المقدمات.

 وكان خروجه وهجرته وهروبه هو السبيل الوحيد لانقاذه من الجنون.

وأراؤه فى يونيو على كل حال ليست بعيدة عن آراء العبقرى نجيب محفوظ التى اخذها عنه الكاتب الكبير رجاء النقاش فى كتابه "نجيب محفوظ صفحات من مذكراته واضواء جديدة على ادبه وحياته".

ولو عدنا الى هذا الكتاب التى اشعل صخبا عاليا قبل عام فسوف نكتشف ان هناك  شبه تطابق بين الرجلين محفوظ وبدوى فيما يتصل برؤيتهما لثورة يوليو وما سببته لنا من بلايا ورزايا.

وهو عندما اراد ان يتحدث عن الثورة عقد لها فصلا خاصا سماه السنة الكبرى.

وقد سماها كذلك لانه رآها وهذا من حقه فاصلة وفاصلا بين عهد وعهد.

ثم راح يقارن ويقول :

ومما قاله ان الحرية كانت قبل 52 نعمة ينعم الكل بظلالها الوارفة ويطالب دائما بالمزيد واذا بها فى العهد الجديد حكرا لفرد تحيط به عصابة.

وان الكرامة كانت من اعز ما يزهو به المصرى فصارت هدفا لكل اضطهاد ومصدرا لكل حرمان وشقاء.

وأن الامن على النفس كان موفورا لكل شخص فصار الخوف على كليهما يهدد كل فرد وكل اسرة.

وان النفاق كان مقصورا على فئة من الوصوليين وعديمى الضمائر فأضحى خصلة لشعب بأسره يتنافس الجميع على ممارستها ويتباهى بالتفوق فيها.

وأن .. وأن..

ومن الطبيعى ان يكون متأثرا فى احكامه هذه بما صادفه فى طريقه من ويلات فهو فى النهاية بشر.

وليس من المعقول ان تلقيه فى الماء مكتوفا كما قال الشاعر القديم ثم تخاطبه محذرا اياك ان تبتل.

كيف لا يبتل وكيف لا يقاوم الغرق وكيف لا يصارحنا اذا بلغ الشاطئ  بما كان على طول الرحلة من انواء وبما كان على مدى حياته من الصغار والصغائر.

صحيح ان بعض آرائه كانت اشبه بالاحكام التى بلا حيثيات ولكن الصحيح ايضا ان بعض ارائه الاخرى كانت مقرونة بحيثياتها اقتران الشئ بظله فى وسط النهار.

واستطيع ان اضرب امثلة كثيرة فى هذا الشأن ولكنى سوف اكتفى بمثلين احدهما كان منطقيا معقولا مقبولا والاخر كان من الصعب على القارئ ان يتقبله هكذا بسهولة.

فعندما زار طهران ومكث فيها ما يقرب من عام كتب عن ايران صفحات طويلة قد تصلح لان تكون كتابا مستقلا.

وهناك لاحظ ان عندهم مطربة اسمها مرضية وان لها مكانة فى قلوبهم تشبة مكانة ام كلثوم عندنا.

ولا اعتراض لنا على هذا ..

ولكن الاعتراض يأتى على النصف الثانى من الجملة التى يجمع فيها سائر مطرباتهم عهدية مهاستى كوكوشى ويرى ان اغانيهن عادية شعبية خالية من المعانى تماما مثل اغانى فايزة احمد وشادية وصباح.

وسوف يجد كثيرين يجادلونه فى أن أغانى مطرباتنا الثلاث خالية من المعانى والسبب أنه لم يقل لنا لماذا هى أى الاغانى عادية ولماذا هى شعبية ولماذا هى ايضا خالية من المعانى.

ومن العسف ان يختزل مشوارا من الفن الجميل لثلاث من اجمل مطرباتنا فى سطر واحد يمسح تاريخهن تماما ثم يستريح.

وبمعنى آخر فى ظل عدم وجود حيثيات لهذا الحكم يبقى حكما ظالما وجائرا ومتجنيا.

والمثل الثانى أراه فى زيارته للفاتيكان عام 68 ورؤيته للحوار بين الإسلام والمسيحية عندما سألوه رأيه فيه بأنه نوع من حوار الصم.

لقد سألوه هناك ما رأيك فى مسألة الحوار بين المسيحية والإسلام.

قال انا لا افهم لهذا الحوار سببا ولا داعيا لان للاسلام عقائده الخاصة وللمسيحية ممثلة فى الكنيسة الكاثوليكية عقائدها الخاصة بها ولا محل لتأليف ديانة جديدة مشتركة بين هذين الدينين.

وسئل كثيرا واجاب اكثر وكانت الاسئلة والاجوبة كلها تدور حول فكرته الراسخة فى جوابه الاول .. فالشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا على حد تعبير رود يارد كيلبنج الشاعر الانجليزى الشهير.

وانت قد تختلف معه حول هذه القضية التى يراها خاسرة ويراها كثيرون غيره رابحة ومفيدة قضية الحوار.

ولم يقل احد ان الحوار بين الديانتين يهدف الى ايجاد ديانة ثالثة لم ينطق احد بهذا الكلام ولا يستطيع لانه غير ممكن بل ومستحيل.

وانما الهدف كما نفهمه من عمل لجنة الحوار التى انشأها الازهر مؤخرا- ان يكون هنا نوع من التركيز على القيم المشتركة بين الجانبين وان يتسلط الضوء عليها باستمرار.

وتعجبنى هنا عبارة يرددها دائما الدكتور على السمان نائب رئيس اللجنة الدائمة للحوار بالازهر وهى ان الحوار يسعى دائما الى تصدير وابراز وتجسيد اسلام السماحة.

فالذى لحق بالاسلام على يد بعض ابنائه فى السنوات الاخيرة قد هيأ لكثيرين فى الغرب على وجه الخصوص انه لا وجود لدينا لما يسمى باسلام السماحة رغم انه الوجه الحقيقى والمشرق لديننا الحنيف وانما الموجود والمسيطر والحاضر هو فقط اسلام العنف والدم والارهاب.

الحور اذن بين الديانتين وتحديدا بين الفاتيكان باعتبارها راس الكنيسة الكاثوليكية وبين الازهر الشريف بحسابه حصن الاسلام الاول والأخير الحوار بينهما الهدف منه السعى الى القيم المشتركة ثم الوقوف عندها ودفعها الى الامام لتتولى هى الصدارة بدلا من قيم اخرى ليس لها ان تتواجد فضلا ان تبقى وتقيم.

ويكفى ان يكون الهدف هو احياء قيمة الحوار فهذه فى حد ذاتها، تستأهل وتستحق ان ننشغل بها والا ننشغل عنها.

وبعد .. فلا ينال من سيرة الرجل الا يرضى عنها الناس او ان تكون عليها ملاحظة هنا واخرى هناك.

اننى ارى فيها مثلا ثغرات ليته يملؤها اذا اعاد طبع الكتاب.

منها انه لم يكتب حرفا عن فترة وجوده فى الكويت رغم انها بالكم والكيف اكبر من تلك التى قضاها فى ايران وقد افرد للحديث عن الاخيرة اكثر من 150 صفحة فلماذا كانت الاولى غائبة تماما والثانية حاضرة باكثر من اللازم ؟ انه سؤال حائر !

ومنها ان علاقته بالمرأة غامضة ومبهمة وغير واضحة وهو يتجنب الحديث عنها ما استطاع الى ذلك سبيلا واذا تحدث فانه يفعل بحيد لا يعرفه فى حديثه عن سائر الموضوعات والقضايا.

لقد اقام فى هولندا مثلا بضعة اسابيع عرف خلالها بعض حسناواتها فلما انقضت يامهن جلس يتأوه ويندم ويذكر ما كان ثم يقول كلمات اشبه بالزفرات :

"آه ما اجمل الايام التى قضيتها فى هولندا ممتع الحس والعقل والعواطف لكن ميزة هذه الايام هى انها عابرة ولو استمرت او طالت لأملت واضجرت ناهيك بها اذا ارتبط بالتزام هناك تصبح عذابا لا يطاق.

كانت هذه السطور القلائل هى اطول المواضع عنده حديثا عن علاقته بالجنس الاخر .. فما عدا ذلك يبقى غائما لا يكشف عن شئ.

ومنها انه لم يذكر احدا من اشقائه واخوته الاثنين والعشرين بشئ اللهم إلا شقيقه الاكبر وهبة الذى مسه مسا عابرا ولم يعد اليه تماما كما فعل مع أبوية وكأنه يجد فى الحديث عنهما شيئا من العيب ان يكون على العكس من لويس عوض الذى خاض فى هذا السبيل الى حد الوجع ووصف اشقاءه واهله باشياء كادوا ان يذهبوا به بسببها الى القضاء.

والفضل يبقى للدكتور بدوى لانه الوحيد الذى امتلك الجرأة التى استطاع بها ان يقول وبأعلى صوته ان الملك .. عريان.

الوفد 18/5/2000

المناخ الفاسد

بدوى يصف الأجواء التى أجبرته على الهجرة بأنها فاسدة للغاية تقوم على الدس والوقيعة والوشاية !

عبد الرحمن بدوى يفتح قذائفه على جميع الجبهات :

القائمون على الأمر فى مصر يحكمهم الهوى .. والاستبداد الأحمق

الدرجات الشاغرة فى الجامعات للأكثر تملقا والأشد عجزا والأدنى علما

واحد فقط فى ظنى هو الذى تفوق على الدكتور عبد الرحمن بدوى عندما اراد ان يتوقف لحظة ليكتب لنا حكايته مع الحياة ومع الاحياء.

هذا الواحد هو الدكتور لويس عوض وقد فعلها فى سيرته او مذكراته التى اخذت عنوان "اوراق العمر".

وهى مع الاسف لم تكتمل اذ مات الرجل بعد ان اخرج جزءها الاول وكان قد انتوى ان يكون هناك فيما بعد جزء ثان وثالث .. وربما رابع لكن القدر كان قد سبق.

وقد كان لويس عوض فى روايته لاصداء حياته، جسورا شجاعا جريئا واكاد اقول متهورا غير هياب ولا خائف من احد ولا من شئ ايا كانت سطوة هذا الشئ او قوة ذلك الاحد.

وقد اثارت سيرته وقت صدورها فى مطلع التسعينات صدى لا يقل فى صخبه عما احدثته اليوم سيرة الدكتور بدوى كلاهما كان قادرا على ان يتحرر من اى خوف وهو يكتب وان يتجرد من كل رهبة يمكن ان تعوق حركة القلم وهو على الورق يجرى.

بخلاف هذين الرجلين لم يستطع احد ممن كتبوا ان يجاريهما او ينافسهما فى تحطيم اصنام كثيرة يمر امامها الجميع عابرين وهم مطأطئوا الرؤوس لا خشية منها فهى فى حد ذاتها لا تخيف احدا فضلا عن ان تنفع او تضر وانما نفاقا لمجتمع يظل فى اغلبه اسيرا لاشياء زائفة واشخاص اكثر زيفا رحلوا عن الحياة من زمان ورغم ذلك فانهم يحكمون من هناك من القبور ..

حتى نزار قبانى الذى كان شاعرا بدرجة مقاتل لم يجرؤ عندما كتب مشواره فى "قصتى مع الشعر" على الخروج على كثير مما اعتاده الناس وانما راح يتحسس الاشياء من بعيد وبدا وكانه يلتمس طريقا وسط ألغام يخشى ان تنفجر فيه.

ولا فعلها خالد محمد خالد فى سيرته "حكايتى مع الحياة" التى كان فيها محافظا بينما كان فى كتاباته الاخرى مجددا مجتهدا مبدعا وثائرا.

ولا احب ان اضع الكاتب المغربى محمد شكرى فى هذا الاطار لان سيرته "الخبز الحافى" قد تمادت فى الصراحة حتى بلغت حد الابتذال الذى لا ابداع فيه.

وربما كان الوحيد الذى لو كان قد كتب لكانت كتابته قد جاءت على منوال بدوى وعوض هو يوسف ادريس لولا انه قد غادر دنيانا قبل ان يكتب وقد كانت طبيعته اذا كتب وتصوره لدور الكاتب يؤهلانه لان يتوازى معهما او حتى يتفوق عليهما .. غير ان لو هنا وفى اى مجال اخر لا تفيد.

ومما سوف يظل فى حساب لويس عوض انه قد كتب ما كتب وهو هنا بيننا وليس مسافرا او مهاجرا او حتى هاربا كما هو الحال مع الدكتور بدوى.

ذلك ان جانبا كبيرا فى جسارة د. بدوى التى ابداها من خلال سيرته "سيرة حياتى" يعود الى انه يحلق خارج السرب ويطير فى سماء مختلفة وبالتالى فلا حسابات كثيرة او قليلة فى دماغه وهو يكتب لقد تخلص تماما من كل ما يمكن ان يضعه المكان على كاهل الكاتب الذى يتخيل حين الكتابة وطأة كلماته ووقعها على قارئيها وخصوصا اذا كان هؤلاء القراء من المحيطين به العائشين معه وممن يلقاهم فى كل طريق عند كل صباح.

شئ من هذا لم يأت على خاطر الدكتور بدوى وهو يجسد تجربته الحافلة منذ مولده عام 1917 الى يومنا هذا على الورق.

والشئ الثانى الذى يميز بدوى عن عوض ان الاول يعيش فى باريس من 33 عاما متواصلة وانه بالتالى يتنفس هواء طلقا منعشا لا هواء فاسدا كالذى نتنفسه كل ساعة على نحو لا يغرى باى كتابة ولا يبشر باى ابداع او اشعاع.

وانا اقصد بالهواء الفاسد هنا معناه العام اى الاجواء السياسية والاجتماعية والثقافية التى يحيا فيها الانسان بوجه عام والكاتب بوجه خاص ويستطيع الاخير ان يكتب بتشجيع من هذه الاجواء واغراء او يلوذ بالسكوت فلا يكتب.

ولعلنا نلاحظ ان الدكتور بدوى يتحدث عن مصر التى خرج منها عام 67 وحين وسوست له نفسه بالعودة والحضور بعدها بست سنوات لم يتحمل البقاء اكثر من شهرين فارتحل غير نادم ولا اسف اذ ادرك ان الامور تسير ولا تزال من سيئ الى اسوأ ليس فى الجامعات فقط وانما فى شتى ميادين الحياة على ارض المحروسة.

فمن يومها والامور تمضى انحدارا من مربع لاخر حتى عادت الى المربع الاول.

لقد انتهينا جميعا الى موقف حرج والى مازق كبير لا نحسد عليه يقف الكل فيه وظهورهم للحائط.

ولعل ما يدعم هذا الكلام ويسنده ويؤكده ذلك السؤال الذى وجهه شاعرنا الكبير فاروق جويدة الى الدكتور بدوى فى باريس قبل اسبوعين عندما سأله عما اذا كان فى مكمنه هناك يحس بالغربة او يستشعر الاغتراب ؟

وكان جواب الرجل حاسما اذ قال : وهل هذا مشيرا الى اجواء باريس -جو يشعر فيه انسان بالغربة سواء كان هذا الانسان فرنسيا او اجنبيا.

ان الغربة الحقيقية -قال د.بدوى وهو يخاطب جويدة- تشعرون بها انتم هناك رغم انكم تعيشون على ارض وطنكم على هذه الارض ينتفى الاحساس بالامان تماما لدى الغالبية الغالبة وتشعرون فى كل ساعة ان الارض ليست ارضكم وان البلد ليس بلدكم.

ولعل الدكتور بدوى لم يبالغ ولم يشطح كثير وهو ويلون معالم الصورة صورتنا- التى يستشعرها ويراها اكثر مما نراها نحن الغارقين فى تفاصيلها ولعله ايضا قد ساق جوابه فى عبارات هادئة مؤدبة وان كانت معبرة وصادقة.

واظنه وهو يجيب كان يستعرض نماذج البشر التى عرفها فى حياته ثم يرسل زفرة طويلة ينوء بها صدره ويكاد يبصق فى كل اتجاه وهو يردد قول الشاعر احمد مطر :

ليس فى الناس امان

ليس للناس امان

نصفهم يعمل شرطيا لدى الحاكم

والنصف مدان

وإلا هل كان بامكانه لو استبقى نفسه بيننا الى اليوم ان يشير الى مؤلفاته ثم يحصيها فاذا هى 120 كتابا اغلبها غير مسبوق فى ميدانه، وبعضها صادر بلغات اخرى غير العربية؟!

وهل كان بمقدوره وهذا هو الاهم ان يجعل من سيرته قطعة من الادب الراقى والصادق والمنفتح على كل الثقافات فى ان واحد.

من المؤكد ان كثيرين بيننا عندهم مثل ما عنده وربما اكثر منه او ضعفه مما يمكن ان يقال ولكن الفارق الحقيقى بينه وبين هذا الفريق هو فى القدرة على القول وفى القدرة على امتلاك قوة المستغنى التى تمنح الكاتب قوة يناطح بها الجبال.

هذه القوة قوة المستغنى هى التى منحته طاقة متدفقة وقدرة هائلة على ان يواجه ويبادئ وعلى ان يبدى كل ما فى داخله وليس بعضه كما نفعل جميعا او اكثرنا على الاقل.

قوة المستغنى هى التى هيأته لان يقول مثلا ان ثوار يوليو قد استمالوا الفريق عزيز المصرى بعد قيام الثورة رغبة منهم فى الإتكاء على واحد من ذوى السمعة الوطنية الحسنة وبسرعة كان الثوار انفسهم هم الذين ابعدوا الرجل الى موسكو سفيرا هناك ثم ارسلوا وراءه مراد غالب (وزير الخارجية فيما بعد) كى يحصى على الرجل حركاته ويكتب عنه التقارير ويراقبه ثم يبعث بكل ذلك اليهم فى القاهرة.

قوة المستغنى هى التى منحته القوة على ان يوجه هذا الاتهام الصريح الى مراد غالب ويرى ان تقارير غالب البوليسية والمباحثية كانت سببا فى استدعاء عزيز المصرى بعد فترة قصيرة ليس هذا فقط بل واخراجه من عمله بوازرة الخارجية.

قوة المستغنى ايضا هى التى لم تمنعه من ان يصف الجو السائد فى كلية الآداب مدرسا بها فيقول لقد كان الجو فاسدا للغاية.

وخير وصف له هو عبارة طه حسين لا يعملون ويؤذيهم ان يعمل الآخرون لم يكن سلاحهم فى التنافس العلمى والإنتاج العلمى بل الدس والوقيعة والوشاية والتزلف الى ذوى النفوذ داخل الجامعة وخارجها فتحولت هيئة التدريس على عش للافاعى ينهش بعضها بعضا ويورث الخصومة بينهم عمداء لم يصلوا الى هذا المنصب بالعلم او الكفاية الادارية الجامعية بل بالصلات مع من فى الحكم (احمد امين) او العلاقات الحزبية الدنيئة (حسن ابراهيم حسن) او الدجل الدينى والسياسى (عبد الوهاب عزام) او الدسائس الخسيسة  (زكى محمد حسن) !!

قوة المستغنى هى التى اغرته بان يزيح اى حساب من بين ناظريه ومن امام عينية ثم يقول وزاد من حدة الخصومة بين اعضاء هيئة التدريس قلة الدرجات الالية المعروضة وكونها مشاعا بين اعضاء هيئة التدريس فى جميع الاقسام على السواء فكان يحدث احيانا ان يتنافس عشرون عضوا من مختلف الاقسام على درجتين لوظيفة استاذ مساعد فى كل الاقسام وهنا يكون الفصل فى ايدى من لا ضمير لهم ولا ذمة ممن يتملقون العميد الذى يتملق بدوره من هو اعلى نفوذا فكان لا ينال الدرجات الشاغرة الا من هم اخس تملقا وادنى درجة فى العلم واشد عجزا من الانتاج.

قوة المستغنى مرة اخرى وليست اخيرة هى التى لم تجعل من تجربة اشتغاله مستشارا ثقافيا ومديرا للبعثة التعليمية المصرية فى سويسرا من 56 الى 58 قيدا فى يديه.

كانت تجربة مؤلمة راى فى ضوئها كيف ان البداية بداية ثورة يوليو إذا كانت هكذا وقتها فان النهاية بيقين لا تبشر بخير.

لقد حضر فى ذلك الحين وباعتباره مستشارا ثقافيا مؤتمرا للمستشارين الثقافيين المصريين فى عواصم العالم عقده وزير التعليم (المركزى) كمال الدين حسين فى القاهرة ثم فى دمشق كانت الوحدة لا تزال قائمة وكان لكل وزارة ثلاثة وزراء واحد مركزى واثنان اقليميان.

وليس اصدق من وصف ما جرى الا ما قاله الرجل نفسه فلقد كان حاضرا وشاهدا قال : كان من المفروض ان يكون القصد من هذا المؤتمر تبادل الرأى فى المشاكل الثقافية بين مصر والبلاد الاخرى والكشف عن النقائص واقتراح العلاج لكن نتيجة المؤتمر كانت على العكس تماما فالذين اوضحوا المشاكل واقترحوا وسائل العلاج قرر وزير التعليم اعادتهم الى مصر بينما الذين لم ينطقوا بكلمة واحدة طوال عشرين يوما هم الذين ابقى عليهم فى اماكنهم بالخارج فهل هناك عبث اكبر من هذا العبث.

يجيب هو : فيم اذن كان استدعاؤهم وتحمل تكاليف اسفارهم وإقامتهم وبدل سفرهم اذا كانت هذه هى النتيجة؟! ان المرء ليحار كل الحيرة فى فهم تصرفات القائمين على تسيير الحكم فى مصر ان الهوى واللامعقول والاستبداد الاحمق هى التى تحكم تصرفاتهم.

قوة المستغنى اخيرا هى التى اتاحت له ان يصارحنا بهذا الكلام ثم يحلب بقرته وينام .

الوفد 11 / 5 / 2000

ليست هناك تعليقات